اي كُفينا حُداء الإبل برعد الربيع، لانه قام لها مقام الحُداء بصوته، وقيل: كفانا الربيع العيس: اي كان منه رَعيُها وشُربها وحُداؤها. ولو عدد للربيع أيادي غير الرعد كما قال، لقال: فجائته: اي رعت. وشربت؛ وجاءته. وإنما قال) فجاءته (: فبين كيفية الكفاية، كما تقول: أحسنت إليك فوهبتك ألفا، فهبة الألف تفسير للإحسان. وقوله:) لم تَسمَع حُداء (جملة في موضع الحال اي جاءته غير سامعة حُداء إلا الرعد.
والرعد هنا: مصدر من قولك: رَعَدَت السماء تَرعُد رعداً. ولا يكون الرعد الذي لا يُسمع هو الجوهر المكنى في قوله تعالى:) ويُسبح الرعدُ بحمدهِ (لأن ذلك لا يُسمع بذاته، إنما يسمع صوته. والحداء عَرَضٌ، فمقابلته بالعرَض أولى، وهذا دقيق فتفهمه.
) إذا ما استَحَين الماء يعرضُ نفسه ... كَرَعن بِسِبتٍ في إنا من الوَرد (
يصف ما أمطرتهم به السماء من الماء، وأنبتت لهم الأرض من الربيع، في مُضيهم إلى أبى الفضل، لمكان بركته، وأن العناصر تُعظم شانه، وتعلى مكانه، فتسقى رُواده، وترعى قُصاده. والسبت: كل جلد مدبوغ وقيل: هو المدبوغ بالقَرَظ خاصة، وهو يلين الجلود ويحسنها، حتى تُشبهُ العربُ مشافر الإبل بها، فيقول: إذا مرت هذه الإبل بهذه السيول التي غادرتها هذه الغيوث، ظلت كأنها تعرض نفسها عليها. فكأن الإبل مستحية منها. لإلحاح المياه عليها، بعرضها أنفسها، وقد أحاطت بها رياض الورد او ما يشبه الورد، من ضروب الأزاهير، وأنواع النواوبر. فهي تُدخل أكارعها فيه؛ وتغمس مشافرها في تلك المشارب، متقنعة من إفراط الحياء، بذلك الورد النابت. وإنما عنى) بالسبت (ها هنا مشافرها، كقول طرفة:
وخَدٍّ كقرطاس الشآمي ومِشفرٌ ... كسبت اليماني قده لم يُحرد
وقيل: غَسَل الماء المستنقع في الأرض أخفاف الإبل من الطين، حتى عادت كالسبت في نقائها، وأنبتت حافات الغُدُر زهراً، فكأن الماء: بعرض نفسه يتراءى في إناء من الورد، والأول اولى.
) فَتى فَاتَتِ العدوى من الناس عينُهُ ... فما أرمدت اجفانه كَثرةُ الّثرمدِ (
ضرب الرمد مثلاً للعيوب المُعدية، لأنه داء ربما أعدى كالجَرَب ونحوه. فيقول: كثرت العيوب في الناس، لكنه سَلم هو منها، فلم تعًدهِ، لشرف عنصره، وصفاء جوهره. وقصد منه) العين (، توطئة لذكر الرمد الذي جعله مادة القافية، وحسن ذلك ما ذكرت لك من طبيعة الرمد في العدوى.
) يُغيرُ ألوان الليالي على العدا ... بمنشوُرةِ الراياتِ مَنصورةِ الجُندِ (
اي يوقد النيران في معسكر هذه الكتائب، فيغير من سواد الليل. ولما كان النارُ إنما تُوقدها هذه الكتيبة، جعل التغيرُّ لها، إذ هي الفاعلة الجقيقة، والنار وإن كانت مُغيرة، فإنها مفعولة للكتيبة، فهي الفاعلة على القصد الأول، والنار الفاعلة على القصد الثاني. فافهمه: إذا ارتقبُوا صُبحاً رأوا قبل ضَوثِه كَتاَئِب لا يردي الصباحُ كما تردي اي يتوهم العدو المغزو بتلك النار صبُحا وهو يترقب حقيقة الإصباح، فتوافيهم هذه الكتائب مكان الصباح الذي ارتقبوه، وجعل الكتائب أسرع من الصباح عدواً. وإن شئت قلت: إن مجيء الصباح غير مجيء الكتائب، لأن مجيء هذه مشيٌ، ومجيء الصباح طلوع، فلذلك قال:) لا يرْدي الصباحُ كما ترِدي (.
) يَغضن إذا ما عُدن في مُتَقَاذفٍ ... من الكُثر غانٍ بالعبيد عنِ الحَشد (
) يغضن (: يَنْعدِمن فلا يُوجدن. اي بعوثك المتوجهة للغارة على عظمها وكثافتها، إذا عادت إلى معظم جيشك، غاضت فيه كما يغيض النهر في البحر، و) متقاذف (: جيش يقذف بعضه بعضاً، لكثرتهم والتقائهم، كقول الراجز في صفة خصب وإبل:
أرعيتُها أكرم عُودٍ عُودا ... بحيثُ يدعُو عامرٌ مَسْعودا
اي يتقاذف هذان الراعيان في طول هذا المكان واكتماله، حتى ينادي كل واحد منهما صاحبه.
) غان بالعبيد (: اي أن هذا الجيش متألف من عبيد ابن العميد. فقد استغنى بهم عن الحشد، للقُربى. وأن يكون اسما أولى، ليُطابق العبيد، لان العبيد اسم. وقد قال أبو زيد الحشدْ: القوم المجتمعون؛ فهذا مما يقوى فيه الاسمية.
) حَثت كُل أرضٍ تُربةً في غُبارهِ ... فَهُن عليه كالطرائق في البُرد (