قال: (لُيَجْزِيَ قَوْم) بالرفع، لكن ما قال: (قومٌ) قال: (قوماً)، فدل على أن النائب هنا الجار والمجرور، (بِمَا)، فأخذ الكوفيون قاعدة عامة مطردة: أنه يجوز في كل مفعول به وجد مع ظرف أو إلى آخره أن يناب غير المفعول مع وجوده، وهذه من المآخذ على مذهب الكوفيين، لماذا؟ الكوفيون ليسوا كالبصريين قطعاً، البصريون محققون إن صح التعبير، لأن البصريين يقعدون قاعدة في النظر العام المطرد الكثير في لسان العرب، ثم ما خرج إن أمكن تأويله أولوه ليوافق القاعدة المطردة، وما لم يمكن حكموا عليه بالشذوذ والضرورة، قاعدة مطردة المذهب من أوله إلى آخره على هذا، النظر والتقعيد والتأصيل على المطرد الغالب في لسان العرب، فما خرج من ذلك مخالف للقياس المطرد، -لذلك سموه قياساً-، وما خالف حكموا عليه بأنه شاذ، ثم ما أمكن تأويله حملوه على السابق، وإلا حكموا عليه بالشذوذ، الكوفيون لا، يكاد لو جاءت مائة بيت كلها مختلفة كل بيت، قالوا: يجوز .. يجوز يجوز، هذه مشكلة ما ينضبط النحو بهذه الصورة، حينئذٍ النظر في المفعول به، يعني: في القرآن وفي السنة وفي الأشعار .. إلى آخره، لا يكاد أن يخرج إذا وجد المفعول به أن يبقى المفعول منصوباً ويناب غيره، قليل جداً هذا، لا يمكن أن يجعل قاعدة، وإنما نقول: القاعدة المطردة الفصيحة التي ينبغي التعويل عليها، هي: أنه لا يناب إلا المفعول به إن وجد، وإن ورد قليلاً، حينئذٍ قد يقال بأنه إما شاذ إذا لم يصح في قراءة معينة، وإما أن نقول: هذا يصح لغة لكنه قليل ليس بالمطرد، يعني: يُلجأ إليه عند الحاجة إما من جهة المعنى أو من جهة أخرى، فينظر فيه نظر خاص، لكن لا يجعل قاعدة مضطردة بأنه مساوٍ لتلك القاعدة، هذا ليس بجيد.
إذاً: مذهب الكوفيين مستدلين: (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا).
وقول الشاعر:
لَمْ يُعْنَ بِالعَلْيَاءِ إلاّ سَيِّداً ... ولاَ شَفَى ذَا الغَيِّ إِلاَ ذُو هُدَى
لَمْ يُعْنَ بِالعَلْيَاءِ: بالعلياء جار ومجرور نقول: هذا نائب فاعل.
إلاّ سَيِّداً: إلا سيدٌ دل على أنه لم يُنِب سَيِّداً إذ لو أنابه لرفعه، ومذهب الأخفش التفصيل، الكوفيون: سواء تقدم أم تأخر يعني اتصل بالعامل أو انفصل يجوز، مذهب الأخفش: لا، إذا تقدم غير المفعول به عليه جاز إقامة كل واحد منهما، ضُرِبَ في الدار زيدٌ، ضُرِبَ في الدار زيداً؛ لأنه تأخر، فلما فصل بين العامل والمفعول به في الدار جاز أن يناب في الدار أو المفعول أنت مخير.
وإن لم يتقدم تعين إقامة المفعول به: ضُرِبَ زيد في الدار، إذا تقدم اتصل بالعامل تعين أن يكون هو نائب الفاعل، وهذا أقرب من مذهب الكوفيين، لكن يرده الآية: (لِيَجْزِيَ قَوْماً)، المفعول به متصل هنا بالعامل.
على كلٍ الأصل القاعدة المطردة: هو أنه لا يناب إلا المفعول به، وإن على جهة القلة أنيب غير المفعول به لا بأس به، ولذلك قال: وَقَدْ يَرِدُ.
وَبِاتِّفَاقٍ قَدْ يَنُوبُ الثَّانِ مِنْ ... بَابِ كَسَا فِيمَا الْتِبَاسُهُ أُمِنْ
فِي بَابِ ظَنَّ وَأَرَى الْمَنْعُ اشْتَهَرْ ... وَلاَ أَرَى مَنْعَاً إِذَا الْقَصْدُ ظَهَرْ