ومثال تقدم الفاعل المحصور بـ (إلا) قولك: ما ضرب إلا عمرو زيداً، هذا واضح. الأصل فيه التأخير: ما ضرب زيداً إلا عمرو؛ لأنه يجب تأخيره، ولكن لما علم فحينئذٍ نقول: جاز تقديمه.
إذاً: نقول: المحصور بـ (إنما) لا خلاف في أنه لا يجوز تقديمه، وأما المحصور بـ (إلا) ففيه ثلاثة مذاهب:
مذهب أكثر البصريين والفراء وابن الأنباري أنه لا يخلو، إما أن يكون المحصور بها فاعلاً أو مفعولاً، فإن كان فاعلاً امتنع تقديمه، وإن كان المحصور مفعولاً جاز تقديمه على التفصيل، مع كون الناظم أطلق.
والثاني: مذهب الكسائي أنه يجوز تقديم المحصور بـ (إلا) فاعلاً كان أو مفعولاً لأمن اللبس فيه بخلاف (إنما)، وهذا واضح بين وهو الظاهر، وعليه كلام الناظم رحمه الله تعالى.
المذهب الثالث -مذهب بعض البصريين-: أنه لا يجوز تقديم المحصور فيه بـ (إلا) فاعلاً كان أو مفعولاً، والصواب ما ذهب إليه الكسائي رحمه الله تعالى.
وَشَاعَ نَحْوُ خَافَ رَبَّهُ عُمَرْ ... وَشَذَّ نَحْوُ زَانَ نَوْرُهُ الشَّجَرْ
أشار بهذا البيت أنه قد يجب تقديم المفعول به على الفاعل إذا اتصل بالفاعل ضمير يعود على المفعول به؛ لأن الأصل والقاعدة في الضمير أنه يعود إلى متقدم، إما مذكور وإما دال عليه بقرينة، إما أن يكون مذكور: زيد قام؛ هذا عاد إلى مذكور، أو دل عليه الحال مثلاً: ((اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ)) هُوَ عاد إلى -الضمير لا يرجع إلى الأسماء-، هنا (اعْدِلُوا) جملة أي: العدل المفهوم من الفعل، {وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وهو أي: الشارب ولا يشرب الخمر، هو؛ نقول: مرجع الضمير الشارب المفهوم من السياق.
وكذلك قد يكون بالحال: ((كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي)) بَلَغَتْ يعني: الروح.
إذاً: الحاصل: أن الضمير لا بد أن يكون مرجعه متقدماً، ولا يجوز أن يكون مرجعه متأخراً، لماذا؟ لأن وقع الضمير في لسان العرب هو ما ذكرناه، وهذا بالاستقراء التام لما ورد في النصوص، حينئذٍ إذا رجع إلى متأخر فإما أن يرجع إلى متأخر لفظاً ورتبة أو رتبة فحسب.
الثاني: جائز، إذا رجع إلى متأخر في الرتبة دون اللفظ هذا جائز، وإذا رجع إلى متأخر لفظاً ورتبة هذا ممنوع إلا في ست مواضع.
وَشَاعَ نَحْوُ خَافَ رَبَّهُ عُمَرْ
شَاعَ: هذا كثير أو قليل؟ هنا اتصل بالمفعول به ضمير يعود على الفاعل، الأصل: خَافَ عُمَرُ رَبَّهُ، لا إشكال فيه، خَافَ عُمَرُ رَبَّهُ، رَبَّهُ: اتصل به ضمير مفعول به يعود إلى متقدم في الرتبة واللفظ، هل يجوز تقديم المفعول به المتصل بضمير يعود على الفاعل أن يتقدم على الفاعل؟ نقول: نعم يجوز، لماذا؟ لأنه وإن عاد إلى متأخر في اللفظ إلا أنه متأخر في الرتبة.
خَافَ رَبَّهُ عُمَرْ
رَبَّهُ: هذا متأخر في اللفظ دون الرتبة، فمرجع الضمير إلى متأخر في اللفظ دون الرتبة هذا جائز.
خَافَ رَبَّهُ عُمَرْ
عُمَرْ: فاعل، تقدم المفعول به هنا فعاد الضمير على متأخر في اللفظ، أما في الرتبة فلا؛ لأن رتبة الفاعل التقدم، وحينئذٍ هذا لا بأس به وهو شائع في كلام العرب. ((وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ)) هذا مثله، هذا جائز وجاء في فصيح الكلام.