وأما مذهب الكوفيين فجوزوا تقديم الفاعل على المفعول:
مَا لِلجمالِ مَشْيُهَا وَئِيدَاً ... أَجَنْدَلاً يحْمِلْنَ أمْ حَدِيدَا
قالوا: هنا قدم الفاعل على عامله: مَشْيُهَا وَئِيدَاً.
مَا لِلجمالِ، مَا: اسم استفهام مبتدأ، لِلجمالِ: هذا خبر، مَشْيُهَا: بالرفع، وَئِيداً: هذا حال من الجمال، ما للجمال حالة كونها وئيداً مشيها، فمشيها فاعل لوئيد فعيل، حينئذٍ تقدم على عامله، قالوا: يجوز مطلقاً في جميع التراكيب أن يكون الفاعل مقدماً على عامله، فحينئذٍ قام زيد فعل وفاعل، زيد قام، زيد إما أن يكون فاعلاً، إما أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده، فيجوز عندهم وجهان في زيد قام، زيد فاعل مقدم، وقام هذا فعل مؤخر وليس فيه ضمير، وزيد: مبتدأ، وقام: هذا جملة خبر، لأنه مسند إلى ضمير مستتر، فحينئذٍ نقول: الصحيح الذي لا ينبغي التعويل على غيره أنه لا يجوز أن يتقدم الفاعل على عامله، لأنه يؤدي إلى اللبس، هل هذا مبتدأ أو فاعل! لأن ثَمَّ فرقاً عند النحاة وغيرهم بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية، الجملة الفعلية تدل على التجدد والحدوث، وأما الجملة الاسمية فتدل على الثبوت والاستمرار.
إذاً: لا يمكن أن يجوَّز الأمران ثم نقول اعرب ما شئت أو اعتقد ما شئت، هذا مبتدأ أو فاعل. وأما ما استدلوا به: مَشْيُهَا وَئِيدَاً هذا سهل تأويله: ما للجمال وئيداً مشيها، ما للجمال نقول: وئيداً مشيها، مشيها هذا مبتدأ، ما دام أنه مرفوع نجوز أنه مبتدأ، وئيداً هذا حال من الخبر المحذوف، مشيها ثابت أو ثبت وئيداً أو يكون أو يوجد، قدر له ما شئت، فوئيداً حال من الفاعل المستتر في الخبر المحذوف.
مَشْيُهَا: كائن أو ثابت وئيداً، أو وجد وئيداً، لا إشكال، وحينئذٍ هو حال من فاعل الخبر المحذوف، التقدير: مشيها يكون أو يثبت وئيداً، إذاً جاز تأويله، هذا المراد، جاز تأويله على وجه صحيح، وحينئذٍ لا يتعين أن يكون فاعلاً مقدماً، نعم لو جيء بأمثلة لا يجوز فيها إلا أن يكون فاعلاً له شأن آخر، وأما إذا أمكن التأويل فحينئذٍ نرجع إلى التأويل، لأنه لا يمكن أن ننظر في القرآن من أوله إلى آخره والسنة وما ورد في أشعار العرب كلها العامل مقدم والفاعل مؤخر، ثم العقل والنظر يقتضي ذلك، ونأتي بمثل هذا البيت والبيتين والثلاثة ثم ننسف هذه القاعدة من أصلها.
إذاً نقول: الصواب أنه لا يجوز تقدم الفاعل على عامله.
واستدل البصريون على أنه لا يجوز تقديم الفاعل على فعله بوجهين:
أحدهما: أن الفعل وفاعله كجزئي الكلمة الواحدة كما ذكرناه سابقاً.
وثانيهما: أن تقديم الفاعل يوقع في اللبس بينه وبين المبتدأ، إذ فرق بين الجملة الاسمية ودلالتها والجملة الفعلية ودلالتها.
وَبَعْدَ فِعْلٍ فَاعِلٌ فَإِنْ ظَهَرْ ... فَهْوَ وَإِلاَّ فََضَمِيرٌ اسْتَتَرْ