المذهب الرابع: مذهب الكِسَائِي، وهو أحرف المضارعة: (أنيت)، كون الفعل المضارع مبدوءً بواحدٍ من هذه الأحرف الأربعة: (أنيتُ)، هو العامل فيه، فـ: (يضرب) هذا مرفوع ورفعه الضَّمَّة، العامل فيه الياء (يضرب)، وهذا أيضاً غريب! لماذا؟ لأنَّ الياء هنا وأحرف المضارعة صارت كالجزء من الفعل، وجزء الشيء لا يعمل فيه، بدليل أنَّ هذه الأحرف موجودة مع النَّاصِب والجازم: (لم يضرب) موجود (يضرب)، (لن يضرب) وُجد الحرف مع النَّاصِب، فكيف يُقَال: هو العامل فيه؟ وهذا ضعيف، لأنَّه يقتضي أن يكون الفعل دائماً مرفوعاً، لأنَّ هذه لا تَنْفكُّ عنه.

إذاً: المذهب الذي رَجَّحَه النَّاظِم هنا هو قوله:

. . . . . . . . . . إِذَا يُجَرَّدُ ... مِنْ نَاصِبٍ وَجَازِمٍ. . . . .

إذا تَعَرَّى وتَجرَّدَ، ولم يسبقه ناصب ولا جازم، لا نفس المضارعة خلافاً لثعلب، لأنَّها إنَّمَا اقتضت مطلق الإعراب لا خصوص الرَّفْع، فَرقٌ بين المسألتين، المضارعة .. المشابَهَة .. مُشابَهَة الفعل بالاسم اقتضت أنَّه مُعرَب .. مطلق الإعراب، ثم الإعراب ثلاثة أنواع: رَفعٌ ونَصبٌ وجَزمٌ، هذه لا دخل للمضارعة فيها، نَحتاج إلى عامل آخر يَدلُّ على أنَّه مجزوم، وعامل آخر يَدلُّ على أنَّه منصوب، وكذلك في حالة الرَّفع.

إذاً: المضارعة إنَّمَا اقتضت مُطلق الإعراب لا خصوص الرَّفْع، ولا حروف المضارعة خلافاً للكِسَائي، لأنَّ جزء الشيء لا يعمل فيه، وكذلك يقتضي أنَّه مرفوع دائماً حتى مع الناصب والجازم، فالمذهبان هذان مذهبان ضعيفان.

واختار المصنف ما ذكره هنا في المتن، قال في (شرح الكافية): "لسلامته من النَّقْضِ" يعني: لا ينتقض، بِخلاف قول البصريين: فإنَّه ينتقض .. قول البصريين: ارتفع لوقوعه موقع الاسم، فإنَّه يَنتَقِض بنحو: هَلاَّ تفعل (تفعل) فعل مضارع مرفوع هنا، وهنا لا يقع مَحلَّه الاسم، لأنَّ حروف التَّحْضِيض من خواص الفعل .. من علامات الفعل، فلا تدخل على الاسم، فكيف يُقَال: بأنَّه يقع موقعه الاسم؟ هذا فيه نظر.

وجَعَلتُ أفْعلُ، (جَعَلْتُ) هذا من أفعال الشُّرُوع لا تدخل على الأسماء إلا شُذوذاً، ومَالكَ لا تفعل .. كذلك، (مَالكَ) لا تأتي بعدها إلا الفعل، وكذلك: رأيت الذي تفعل، وسيقوم زيدٌ، هنا وقع المضارع بعد السين، ولا يقع الاسم في هذا المحل، لأنَّ السين هذه من علامات الفعل، وسوف يقوم، كذلك بعد (سوف) لا يقع.

إذاً: ينتقض مذهب البصريين بكون الفعل ارتفع لوقوعه مَحلَّ الاسم، نقول: بعض المَحَال لا يقع فيها الاسم البَتَّة باتِّفَاق الطَّرَفين. فإنَّ الفعل في هذه المواضع مرفوع، مع أنَّ الاسم لا يقع فيها، فلو لم يكن للفعل رافعٌ غير وقوعه موقع الاسم لكان في هذه المواضع مرفوعاً بلا رافع، فبطل قولهم، لأنَّه نقول: هَلاَّ يَقومُ زيدٌ .. (يَقومُ) مرفوع، حِينئذٍ لو كان حلوله مَحلَّ الاسم هو الرَّافِع لرُفع الفعل هنا بلا رافع؛ لانتفاء العامل، ما هو العامل؟ حلول الفعل مَحلَّ الاسم، طيب! في هذا المَحَل هل يَحُل؟ لا يَحُل، إذاً: ارتفع بدون رافع.

فلو لم يكن للفعل رافعٌ غير وقوعه موقع الاسم لكان في هذه المواضع مرفوعاً بلا رافع، فبطل القول بأنَّ رافعه وقوعه موقع الاسم، وصح القول: بأنَّ رافعه التَّجَرُّد، لكن أُورِدَ على التَّجَرُّد اعتراض وهو الذي أُورِدَ على علامة الحرف هناك.

رُدَّ هذا القول: بأن التَّجَرُّد عدمي، والرَّفْع وجودي، والعدمي لا يكون عِلَّة للوجودي .. الرَّفْع وجودي نعم، تنطق به: يقوم .. يقومان .. نَطَقْتَ بالنُّون، والتَّجَرُّد عدمي .. عدم أداة ناصبة وعدم أداة جازمة، عدم ذا وذاك، إذاً: ليس بشيءٍ مُتَقدِّم على الفعل، وهذا هو العدم.

وأُجيب: بأنَّا لا نُسَلِّم أنَّ التَّجَرُّد من النَّاصِب والجازم عدمي، لأنَّه عبارة عن استعمال المضارع على أول أحواله مُخَلَّصاً عن لَفظٍ يقتضي تغييره، واستعمال الشيء والمَجيء به على صِفةٍ ما ليس بعدمي. قال: لا نُسَلِّم أنَّه عدمي، وهذا فيه شيء، لا بل هو عدمي، لماذا؟ لأنَّ استعماله أولَّ ما يُستَعمَل دون أن يسبقه ناصب أو جازم، نقول: هذا عدم، بِمعنَى: أنَّكَ لا تلفظ بالجازم قبل الفعل، ولا تلفظ بالناصب قبل الفعل، وهنا إعدام .. لم تنطق بِهذا ولا بذاك، إذاً: عدم .. لماذا ننازع؟!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015