ولك أن تقول -وهذا أولى-: سَلَّمنَا أنَّه عدمي، لكن لا نُسلِّم أنَّ العدمي لا يكون عِلَّةً للوجودي على الإطلاق، لأنَّ العدم نوعان: عدمٌ مطلق، وعدمٌ مُقيَّد، والعدم المُقيَّد يصح أن يكون مُقتضياً للوجودي، كما هو الشأن في علامة الحرف.

سَلَّمنَا أنَّه عدمي، لكن لا نُسَلِّم أنَّ العدمي لا يكون عِلَّةً للوجودي على الإطلاق، بل ذاك في الأعدام المطلقة، أمَّا العدمي المضاف المُقيَّد كالعمى، فيجوز كونه عِلَّةً للوجودي، إذاً: هو عدم .. هو الظَّاهِر، لَكنَّه عدمٌ مُقيَّد، يعني: ليس عدماً مطلقاً من كل شيء .. لا، عدم من لفظٍ وهو أداة جزم، وعدم من لفظٍ وهو أداة نصب، حِينئذٍ نقول: هذا عدمٌ مُقيَّد، كما نقول: علامة الحرف ألا يقبل شيئاً من علامة الاسم، ولا علامة الفعل، هذا عدم كذلك، لَكنَّه عَدمٌ مُقيَّد.

قال الشَّارِح هنا: "إذا جُرِّدَ الفعل المضارع عن عامل النَّصْب وعامل الجزم رفُع، واختُلف في رافعه". رُفع هذا اتفاق .. لا نِزَاعَ بين النُّحَاة في ذلك، "واختُلف في رافعه، فذهب قوم – لم يُسمِّهم وهم البصريون – إلى أنَّه ارتفع لوقوعه موقع الاسم، فيَضْرِب في قولك: زيدٌ يضرب، واقع موقع ضارب، فارتفع لذلك، وقيل: – وهذا مذهب الكوفيين ومنهم الفَرَّاء – أنَّه ارتفع لتَجَرُّده من النَّاصِب والجازم، وهو اختيار المُصنِّف" وهو الصَّحِيح ..

أنَّه للتَّجَرُّد وهو عاملٌ معنوي، وهو عدمي مُقيَّد لا مطلق، ولا إشكال في ذلك، ودليله واضح: وهو أنَّ الرَّفْع دَائرٌ معه وجوداً وعدماً، والدَّورَان مُشعِرٌ بالعِلِّيَّة.

إذاً: الفعل المضارع يكون مرفوعاً، ورفعه يكون بِضَمَّةٍ ظاهرة أو مُقدَّرة: يقوم زيدٌ ويخشى عمروٌ، وقد يكون بِحرفٍ وهو النون، قد تكون ظاهرة وقد تكون مُقدَّرة كما في حذفها إذا توالت الأمثال.

ثُمَّ انتقل إلى النَّوَاصِب فقال:

وَبِلَنِ انْصِبْهُ وَكَيْ كَذَا بِأَنْ ... لاَ بَعْدَ عِلْمٍ وَالَّتِي مِنْ بَعْدِ ظَنّْ

فَانْصِبْ بِهَا وَالرَّفْعَ صَحِّحْ وَاعْتَقِدْ ... تَخْفِيفَهَا مِنْ أَنَّ فَهْوَ مُطَّرِدْ

أدوات النَّصْب أربعة: أنْ، ولَنْ، وكَي، وإذاً، (أَنْ) هي أمُّ الباب، ولذلك تعمل ظاهرةً ومضمرة، بِخلاف غيرها من الأدوات فلا يعمل إلا ظاهراً، ومعلومٌ أن أمَّ الباب يكون له من الأحكام ما لا يكون لغيره، وهنا العمل وهو مضمر هذا من خَواصِّ هذا الباب.

وإلا الأصل أن الحرف لا يعمل مضمراً، يعني: محذوفاً .. مَنوِّياً، ثُمَّ الحذف قد يكون واجباً وقد يكون جائزاً، والواجب في خمسة مواضع والجائز في خَمسة مواضع كما ستأتي في النَّظْم مَتوَاليَة.

(وَبِلَنِ انْصِبْهُ وَكَيْ) هنا قلنا: أمُّ الباب (أَنْ) هي النَّاصِبة، وبدأ بـ: (لَنْ)، وثَنَّى بـ: (كَيْ) والسِّرُّ في ذلك، أولاً: أنَّ (لَنْ) ملازمةٌ للنَّصْبِ، فلذلك قَدَّمَها، وأمَّا (كَيْ) فهذه ليست ملازمة للنَّصْبِ، قد تكون (كَيْ) حرف جر .. تعليل، وما بعدها منصوب لكن لا بِها، وإنَّمَا هو بـ: (أَنْ) مُضمَرة.

وكذلك (أَنْ) قد تكون مُخفَّفَة من الثقيلة .. قد تكون زائدة .. قد تكون ناصبة مع جواز الرَّفْع، إذاً: ليست مُتعيِّنَة النَّصْب بِخلاف (لَنْ)، ثُمَّ (لَنْ) و (كَيْ) الكلام فيهما قليل، بِخلاف (أَنْ)، ولذلك أَخَّرَه لطول الكلام عليها، إذاً: بدأ بـ: (لَنْ) لأنها ملازمةٌ للنَّصب، بِخلاف البواقي، وكذلك الكلام فيها قليل.

وانْصِبْهُ بِلَن .. (بِلَنِ انْصِبْ) .. (بِلَنِ) بتَحريك النُّون للتَّخلُّص من التقاء الساكنين، لَنْ انْصِب، إذاً: التقى ساكنان، النون والنون، وهمزة الوصل ساقطة في درج الكلام، فالتقى ساكنان، فَحُرِّك الأول بالكسر على الأصل.

(بِلَنْ) الباء حرف جر، و (لَنْ) قصد لفظها عَلَمْ .. اسم، على (لَنْ) التي تكون حرفاً: لن أقوم، حرفٌ هنا، وأمَّا هنا: (انْصِبْهُ بِلَن) (بِلَنْ) جُعِلَت عَلماً على (لَنْ) التي تكون في الكلام .. فرقٌ بين الحرف هنا والاسم، فرقٌ بين الاسم والمُسمَّى، (لَنْ) هنا اسمٌ علمٌ، مُسمَّاه: لن أقوم، هناك في التركيب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015