قال: ومثلها في المثل المشهور: لا تأكلِ السمكَ وتشربَ اللبن، قالوا: تشربَ .. تشربُ .. تشربِ، هذا يحتمل كم معنى؟ ثلاث، لا تأكل السمك، هذا واحد، لا: ناهية، وتأكل: هذا فعل مضارع مجزوم بلا، وجزمه سكون مقدر على آخره، هذا ثابت: لا تأكل السمك، هذا مفروغ منه، بقي: وتشربَ اللبن، وتشرب: هذا يجوز فيه من حيث الإعراب ثلاثة معاني، وتشربَ .. وتشربِ .. وتشربُ، أما: وتشربِ اللبنَ، فهذا عطفاً على مدخول لا الناهية، حينئذٍ يكون مجزوماً، وحرك بالكسر للتخلص من التقاء ساكنين.
المعنى على هذا: لا تأكل السمك، ولا تشرب اللبن، منهي عن هذا وذاك، سواء جمعت بينهما أو أفردت أحدهما عن الآخر، فأنت منهي عنه، هذا في حالة الجزم، وتشربِ، وتشربَ: على جعل الواو واو المعية، وتشربَ: فعل مضارع منصوب بأن مضمرةً وجوباً بعد الواو، المعنى على هذا: لا تأكل السمك مع شربك، إذاً: لا تجمع ولك أن تفرد، يعني: لا تأكل السمك مع شربك اللبن، فإن أكلت السمك وحده دون شرب للبن لا بأس، وإن عكست فلا بأس.
لا تأكل السمك وتشربُ .. بالرفع، يعني: ولك شرب اللبن، الثاني مباح، لا تأكل السمك منهي عنه، وتشربُ، نقول: هذا على الإباحة، إذاً: هذه معانٍ مختلفة تركيبية على صيغة واحدة، الفعل واحد المثال واحد، ما الذي ميز هذه المعاني من حيث النهي والجمع والإفراد؟ هو الإعراب.
إذاً: وجدت فيه علة إعراب الأسماء، فانتقل الحكم حكم الإعراب من الأسماء إلى الفعل، لكنه لم يجعل أصلاً فيه كما جعل أصلاً في الأسماء؛ لأن هذه المعاني يمكن تمييزها بغير الفعل، لا تأكلِ السمكَ، ولك شربُ .. حذفنا الفعل، لا تأكلِ السمكَ شارباً اللبن، جئنا بالحال نصاً، لا تأكلِ السمكَ ولا تشرب، جئنا بالحرف على أصله، لما أمكن أن نفر عن اللبس والاختلاف في فهم المعنى التصريح بالاسم أو بلا الناهية عن الإعراب، صار الإعراب فرعاً في الفعل المضارع دون ماذا؟ صار الإعراب فرعاً في الفعل المضارع ولم يكن أصلاً.
إذاً: وأعربوا مضارعاً، لماذا أعرب الفعل المضارع مع كون الأصل فيه أنه مبني؟ نقول: لكونه أشبه الاسم، أشبه الاسم في ماذا؟ في توارد المعاني المختلفة عليه، هذه العلة هي الصحيحة وهي التي نكتفي بها.
لكن إعرابه مطلقاً؟ قال: لا، إنْ عَرِيَا .. مِنْ نُونِ تَوْكِيدٍ مُبَاشِرٍ وَمِنْ .. نُونِ إنَاثٍ، يعني: كأنه قال لك: وأعربوا مضارعاً لا مطلقاً، بل إن عري من نون توكيد، وعري هنا، بمعنى: خلا، وعري من باب رضي، بمعنى: خلا، ويأتي من باب قعد بمعنى آخر، إن خلا الفعل المضارع من نون توكيد مباشرٍ ولو تقديراً.
وإن عرى من نون إناث، إذاً: شرط إعراب الفعل المضارع أن يكون خالياً، يعني: لم يتصل به لا نون التوكيد الثقيلة أو الخفيفة المباشرة ولا نون الإناث، فإن لم يعرَ فحينئذٍ رجع إلى أصله وهو البناء، هذا مأخوذ من مفهوم المخالفة.