وقيل: لا خلاف بينهما -بين البصريين والكوفيين- في مجيء (أمْ) للدلالة على الإضراب وحده، وإنما الخلاف في تسميتها، فالكوفيون يسمونها: منقطعة، والبصريون يقولون: لا مُتَّصِلة ولا منقطعة، يعني: أراد التسوية بين المذهبين، يقول: البصريون لا يمنعون أن تأتي (أمْ) المنقطعة للإضراب وحده، لكن لا يسمونها منقطعة.
إذاً الخلاصة: أن (أمْ) إذا كانت منقطعة ففي معناها مذهبان:
الأول: أنها للإضراب والاستفهام معاً، لا تنفك عن الاستفهام البتة، لا تكون في محلٍ للاستفهام دون الإضراب، ولا في محلٍ للإضراب دون الاستفهام، بل لا بُدَّ من اجتماعهما معاً، وهذا مذهب البصريين، ومذهب الكوفيين لا: تأتي مشربةً استفهام وتأتي مُجرَّدةً عن الاستفهام، والمثال الذي ذكروه واضح: ((أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ)) [الرعد:16] لأنه لا يتصور هنا مذهب البصريين إلا على تأويلٍ بعيد، وهم قد يسلمون بأنها هنا للإضراب، لكنها لا يسمونها: منقطعة، فحينئذٍ تكون النتيجة في ماذا؟ يكون الخلاف لفظياً، لكن لو سُلِّم هذا وإلا الخلاف موجود.
وَبِانْقِطَاعٍ وَبِمَعْنَى "بَلْ" وَفَتْ ... إِنْ تَكُ مِمَّا قُيِّدَتْ بِهِ خَلَتْ
قال الشارح: " أي: إذا لم يتقدم على (أمْ) همزة التسوية ولا همزة مغنيةٌ عن (أيّ) فهي منقطعة، وسميت بذلك لوقوعها بين جملتين مستقلتين "، منفصلتين مثل: (بل)، ما جاء زيدٌ بل عمروٌ .. منفصلة، وتفيد الإضراب، والمراد بالإضراب: الإبطال، يعني: أبطلت ما قبله، وجعلت الحكم لما بعده: ما جاء زيدٌ بل عمروٌ، من الذي ثبت له الحكم؟ ما بعد (بل) ولذلك قال: (بِمَعْنَى "بَلْ").
و (بل) ليست دائماً للإضراب قد تكون للانتقال، لكن المراد به هنا: الإبطال الكلي، يعني: الذي يُعرض كلياً عن ما قبلها.
وتفيد الإضراب كـ (بل) كقوله تعالى: ((لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)) [يونس: 37 - 38] بل يقولون افتراه، ومثله: إنها لإبلٌ أم شاء، أي: بل أهي شاءٌ على مذهب الكوفيين، بل هي شاءٌ على مذهب البصريين، لأنه لا ينفك عندهم الاستفهام عن الإضراب، وأمَّا عند الكوفيين فالمثال صالحٌ للاجتماع، وليس بصالحٍ للانفكاك، أي: بل هي شاءٌ، ويحتمل هذا.
إذاً: اختلف في معنى (أمْ) المنقطعة على مذهبين، فقيل: الإضراب والاستفهام معاً، وقيل: الإضراب فقط، وقد تُشرب معنى الاستفهام.
خَيِّرْ أَبِحْ قَسِّمْ بِأَوْ وَأَبْهِمِ ... وَاشْكُكْ وَإِضْرَابٌ بِهَا أَيْضَاً نُمِي
(خَيِّرْ أَبِحْ قَسِّمْ بِأَوْ)، بأو جار ومجرور مُتعلِّق بقوله: (خَيِّرْ)، وأو هنا قُصِدَ لفظها، فحينئذٍ صارت اسماً فدخل عليه الحرف فجُرَّ بحرفٍ .. جار ومجرور مُتعلِّق بقوله: (قَسِّمْ)، وخير وأبح حينئذٍ نُقدر له بأو ثم نحذفها، خير بأو .. أبح بأو .. قسم بأو، والجمل هنا معطوفة بحذف العاطف:
خَيِّرْ وأَبِحْ وقَسِّمْ وَأَبْهِمِ ... وَاشْكُكْ وَإِضْرابٌ ..
إذاً: (بِأَوْ) تنازع فيه العوامل الثلاثة السابقة، فأعمل ما شئت منها، والأولى أن يُعمَل المتأخر وهو (قَسِّمْ)، حينئذٍ تقول بأو مُتعلِّق بقوله: (قَسِّمْ)، وأمَّا (خَيِّرْ أَبِحْ) حينئذٍ نحتاج إلى محذوفٍ نقدره له.