إذاً: لما فرغ المصنف من بيان المعرب والمبني من الأسماء شرع في بيان المعرب والمبني من الأفعال، ومذهب البصريين: أن الإعراب أصل في الأسماء، فرع في الأفعال، فالأصل في الفعل البناء عندهم، فإذا جاء الاسم معرباً لا يسأل عنه، وإذا جاء الفعل مبنياً حينئذٍ لا يسأل عنه؛ لأن الأصل في الأفعال البناء، كما أن الأصل في الحروف البناء.
وذهب الكوفيون إلى أن الإعراب أصل في الأسماء وفي الأفعال مطلقاً، لماذا؟ أصل في الأفعال وفي الأسماء، والأول هو الصحيح، الذي هو مذهب البصريين، لماذا قال الكوفيون أنه أصل فيهما؟ ليس عندهم من المبني من الأفعال إلا الفعل الماضي، وفعل الأمر عندهم معرب مجزوم بلام مقدرة، والفعل المضارع في غالب أحواله يعتبر معرباً حينئذٍ لوجود بعض المعاني التي تعتري الفعل المضارع كما سيأتي وهذا مسلم عند البصريين، قالوا: بكونه معرباً في الفعل كما أنه معرب في الأسماء، يعني: أصل في الأفعال كما أنه أصل في الأسماء، يعني: توارد المعاني يوجد في الأفعال ويوجد في الأسماء، فصار أصلاً فيهما وهذا منتقد.
قال رحمه الله:
وَفِعْلُ أَمْرٍ وَمُضِيٍّ بُنِيَا وَأعْرَبُوا مُضَارِعاً .. هذه ثلاثة أنواع،
فِعْلُ أَمْرٍ وَمُضِيٍّ بُنِيَا وَأعْرَبُوا مُضَارِعاً ... فعْلٌ مُضَارِعٌ يَلِي لَمْ كَيَشَمْ
وَمَاضِيَ الأَفْعَالِ بِالتَّا مِزْ وَسِمْ ... بِالنُّونِ فِعْلَ الأَمْرِ إِنْ أَمْرٌ فُهِمْ
والترتيب هنا مخالف لما سبق، هنا قدم الأمر: وَفِعْلُ أَمْرٍ وَمُضِيٍّ بُنِيَا .. وهناك قدم الفعل المضارع: ِفعْلٌ مُضَارِعٌ يَلِي لَمْ، لماذا قدم هناك الفعل المضارع؟ لأنه في مقام بيان العلامات وهو أشرف من غيره، ثم قال: وَمَاضِيَ الأفْعَالِ .. ثم قال: وَسِمْ بِالنُّونِ فِعْلَ، قدم ماذا؟ قدم الماضي على فعل الأمر، لماذا؟ لكون الماضي متفقاً على بنائه، وفعل الأمر مختلف فيه، وهنا قدم ماذا؟ قد فعل الأمر، ثم أتى بالماضي ثم أتى بالمضارع، عكس ما سبق على التوالي .. هناك قدم المضارع ثم الماضي ثم الأمر، هنا قدم الأمر ثم الماضي ثم المضارع، لماذا؟ قدم الأمر للاستدلال به أو للاستدلال بهذا التقديم على أن الراجح فيه أنه مبني، مع التنصيص على الحكم، كأنه يقول: أن بناء فعل الأمر كالمتفق عليه من جهة بنائه كما هو متفق عليه في الماضي.
وَفِعْلُ أَمْرٍ وَمُضِيٍّ .. سوَّى بينهما، إذاً: هما في درجة واحدة، ولذلك عند البصريين لا خلاف عند أكثرهم أن فعل الأمر كالفعل الماضي، وإنما نازع بعض الكوفيين في كونه معرباً لعلة تمسكوا بها.
إذاً: وَفِعْلُ أَمْرٍ: قدمه هنا للدلالة على أن الراجح فيه أنه مبني، بل هو مساوٍ للماضي في البناء، ثم ثلَّث بالفعل المضارع؛ لأنه خرج عن أصله، وما جاء عن الأصل سواء كان ماضياً أو أمراً فهو أولى بالتقديم على ما خرج عن الأصل وهو الفعل المضارع، إذاً: ثلاثة أفعال: