قال: (وَاجْرُرْ بِسَابِقَيْ يَكًُونُ) سابقي يكون في البيت السابق، قال اسْتَثْنِ نَاصِباً بِلَيْسَ، ثم قال: خَلاَ وَبِعَدَا وَبِيَكُونُ، ما الذي سبقَ (يكون) سَابِقَيْ بالتثنية؟ خلا وعدا، إذن اجرُر بهما ما بعدَهما، وَاجْرُرْ بِسَابِقَيْ يَكُونُ وهما: خلا وعدا إِنْ تُرِدْ الجرّ إن أردتَ الجرّ جُرَّ بهما، لكن هنا المراد بالجر متى؟ عند التجرد، ويدلُّ على ذلك شيء آخر: أنه أحال على سابقَي يكون وهو قد ذكرهما مجرَّدتين، فدلَّ على أن شرطَ الجرِّ هو التجرد عن (ما) المصدرية، (وَاجْرُرْ بِسَابِقَيْ يَكُونُ) حينئذٍ نأخذُ شرطَ التجرُّد عن (ما) المصدرية بكونه أحالَ على البيت السابق وقد ذكرهما مجرَّدتين، وفُهِم شرطُ التجريد بالإحال على لفظهما وهما خاليان من (ما)؛ لأنه قال: بِسَابِقَيْ يَكُونُ، إِنْ تُرِدْ الْجَرِّ فاجرُر، أما إذا ما أردتَ فنصبتَ حينئذٍ لك مسلك ولك مخرج، إما هذا وإما ذاك، فهو فصيحٌ في لسان عرب؛ إِنْ تُرِدْ الجرّ فإنه جائزٌ وإن كانَ قليلاً والنصبُ أرجح، هُنا لا يُلامُ من أخذَ بما دون الفصيح؛ لأن هذا وارِدٌ في لسان العرب وهذا كذلك واردٌ في لسان العرب، حينئذٍ من اختارَ الأحسن أن يتكلَّم الإنسان بما هو أفصح وأن يحملَ القرآن على ما هو أفصح، لكن إذا لم يمكن حينئذٍ على ما هو دونه وهو فصيح يعني سائغ في كلام عرب فلا إشكال، وأما:
وَالخُلْفُ إِنْ كَان فَخُذْ بِالأَسْهَلِ ... فِي النَّحْوِ لاَ فِي غَيرِهِ فَالأَفْضَلِ
نقول: هذا تَلاعُبٌ بالنحو ولا يُحال عليه، بل هذا من تتبّعِ الرُّخص، نقول: هذا ممنوعٌ، لماذا؟ لأن لسانَ العرب مطّرد ونحن الآن بعدَ هجر اللغات يعني لم يتكلم أرباب القرى والقبائل باللغة، حينئذٍ رجعنا إلى اللغة الأم الفصحى، وإلا لو وُجِد بنو تميم بلسانهم المحفوظ وقريش والحجازيون .. إلخ كلٌّ يتكلّمُ بلسانه، لكن إذا لم يُوجَد حينئذٍ رجعنا إلى الأفصح، وأما مثلُ هذه القواعد أنه يتتبّع الرخص وخُذ الأسهل وحينئذٍ يُحمَل القرآن على هذا نقول: لا، هذا تلاعب، هذا ليس بصحيح، بل الصواب أنه يُعمل بالأفصح وخاصّة في القرآن, القرآن لا يجوز أن يُحمَل على لغة شاذة البتة لا يجوز، ولذلك أكثر المفسِّرين على أنهم إذا جاءوا في قوله تعالى: ((وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)) [الأنبياء:3] نقول: لا يمكنُ حملُها على لغة (أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ) البتة، مع أن ظاهرها (وَأَسَرُّوا) بالواو (النَّجْوَى) مَفعولٌ به (الَّذِينَ ظَلَمُوا)، فلا بُدّ من التقديم والتأخير: (الذين ظلموا أسرّوا النجوى) لا بد من هذا، ((ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ)) [المائدة:71] (عَموا) بالواو (وَصَمُّوا) بالواو فهي فاعل في الأصل، لكن نقول: لا (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) هذا مُبتدأ مؤخَّر، و (عَمُوا) الجملة خبر مُقدّم، ولا نحمله على لغة (أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ) فإنها ليست فصيحة.