نقول: مُطلق المعنى ليس منفياً، وإنما المنفي المعنى الخاص باللفظ، وأما مُطلق المعنى هذا يشملُ التوكيد، والمعروف أن القاعدة أن العربَ لا تزيد شيئاً سواء كان اسماً أو حرفاً إلا لفائدة، وهذه الفائدة ليست هي التي وضع لها هذا اللفظ في لسان العرب، وإنما فائدة التوكيد والاستثناء هذا واضح بين، دائماً تقول ما قامَ القومُ إلا زيداً، ثم تقول قام القوم إلا زيداً إلا العلا، العلا هذا استثناء، لا استثناء هنا، ما وجه الاستثناء؟ ليس فيه استثناء "قام القوم إلا زيداً إلا وجهه"، كيف هذا؟
نقول هذا: بدل بعض من كل، حينئذٍ نقول لم تُؤثّر فيما دخلت عليه شيئاً معنى الاستثناء الذي وضعت له في هذا الباب أصالة، والعملُ الذي هو النصب، ولذلك بعضهم قال: ذَاتَ تَوْكِيدٍ، إلغاؤها أن لا تنصبَ، وإذا لم تنصب حينئذٍ خرجت عن أصلها، ولم تُفِد غير توكيد الأولى، وهذا معنى إلغاءها، وهذا واضح، وذلك في البدل والعطف، أطلقَ الناظم هنا البدل والعطف، الصواب أن يُقالَ في البدل بأنواعه الأربعة وفي العطف بـ (الواو) خاصّة لا غير، هذا ما عليه النحاة، نحو "ما مررتُ بأحد إلا زيدٍ إلا أخيك"، أخيك: بدل من زيد، بدل كل من كل.
لو حذفتَ (إلا) قلت: "ما مررتُ بأحدٍ إلا زيدٍ أخيك"، فأخيك: بدل من زيد؛ بدل كل من كل، ولم تُؤثِّر إلا شيئاً، يعني لم تُفِد فيه استثناء مستقلاً، هذا المراد، وكأنك قلتَ ما مررتُ بأحد إلا زيدٍ أخيك، ومثلُهُ كلام الناظم -رحمه الله تعالى-، وأما العطفُ كقوله "قامَ القوم إلا زيداً وإلا عمراً"، (إلا) هذه مُلغاة، والأصل إلا زيداً وعمراً، (و) بحرف العطف (الواو)، ثم كُرِّرت (إلا) توكيداً، ومنه قول الشاعر:
هَل الدَّهرُ إِلاَّ لَيْلَةٌ وَنَهَارُهَا ... وَإِلاَّ طُلُوعُ الشَّمسِ ثُمَّ غِيارُهَا
إِلاَّ لَيْلَةٌ وَنَهَارُها وَطُلُوعُ الشَّمسِ .. هذا الأصل، نحكمُ على (إلا) بكونها زائدة؛ لأن (الواو) سبقتها، نحكم على (إلا) بكونها ملغاة من حيث المعنى ومن حيث العمل، لسبقِها بـ (الواو)، والأصل طلوع الشمس، وكُرِّرت إلا توكيداً، ودخول (إلا) هنا ليس خاصّاً بنوعٍ من الأنواع السابقة، بل قد يدخلُ الاستثناء التام الموجب، والاستثناء المنفي والمنفصل والمنقطِع والمفرَّغ، كل ما سبقَ يصحُّ دخول (إلا) التي هي للتوكيد.
وَأَلْغِ إِلاَّ ذَاتَ تَوْكِيدٍ كَلاَ تَمْرُرْ، نقول هذه الأحكام لا تختصُّ بنوع من أنواع الاستثناء بل تقع في الاستثناء في المتصل وفي المنقطع وفي المفرغ، فـ (إلا) التي للتوكيد لا تُفيدُ استثناء، وإنما جِيءَ بها للتوكيد فقط وضابطُها أن يكون ما بعدها بدلاً مما قبلَها، أو تتلو عاطفاً، وذلك بخصوص (الواو) على جهة الخصوص، وقد اجتمعَ تكرارُها في البدل والعطف في قوله:
مَالَكَ مِن شَيخِكَ إِلاَّ عَمَلُهُ ... إِلاَّ رَسِيمُهُ وَإِلاَّ رَمَلُهْ