هذا بناءً على جواز حذف الفاعل عندهم، وإذا منعناه نقول حينئذٍ الأصل مرفوض، وهو أنه يجوز حذف الفاعل، حينئذٍ نقول عندنا أمران حذف فاعل أو إثباته وعود الضمير على متأخرٍ في اللفظ والرتبة، هنا مفسدتان وأي المفسدتين أعظم؟

حذف الفاعل أعظم، حينئذٍ لا نرتكب المفسدة الكبرى من أجل دفع الصغرى، بل العكس هو الصواب، فنضمر في الأول ولو عاد على متأخرٍ في اللفظ والرتبة، ولا نقول بقول الكسائي بأنه يحذف الفاعل؛ لأن حذف الفاعل حذف لأحد ركني الإسناد، فبقي الكلام بغير فاعل.

تمسكاً بقول الشاعر:

تَعَفَّقَ بِالأرْطَى لَهَا وَأرَادَهَا ... رِجَالٌ فَبَذَّتْ نَبْلَهُم وَكَلِيبُ

قال:

تَعَفَّقَ بِالأرْطَى لَهَا وَأرَادَهَا رِجَالٌ، (رِجَالٌ) هذا اسم ظاهر تقدم عليه عاملان تَعَفَّقَ وأرَادَهَا، ما قال تعفقوا، وما قال أرادوا، ورجال هذا اسم ظاهر، فدل على أنه أعمل الثاني، وحذف الفاعل من الأول أو العكس.

إما أن نجعل (رِجَالٌ) هذا فاعل لـ (تَعَفَّقَ)، (تَعَفَّقَ) معناه استتر، (بِالأرْطَى) هذا شجرٌ، (لَهَا) للبقرة الوحشية، (وَأرَادَهَا رِجَالٌ فَبَذَّتْ) أي غلبت، (نَبْلَهُم) سهام، (كَلِيبُ): فعيل، كعبد يجمع على عبيد، (كَلِيبُ) جمع كلب.

إذاً (تَعَفَّقَ رِجَالٌ) (أرَادَهَا رِجَالٌ) أعمل واحداً منهما ولم يضمر في الثاني الفاعل، فدل على أنه لا يُضمر، وهذا قد نطق به، فصيح.

ووجهه أنه لم يضمر في واحد من تَعَفَّقَ وَأرَادَهَا، فلم يقل: تعفقوا على إعمال الثاني أو أرادوا على إعمال الأول.

وقال الفراء إن أتفق العاملان في طلب المرفوع فالعمل لهما ولا إضمار، نحو يحسن ويسيء ابناك، يعني إن اتفقا في طلب فاعل وهو مرفوع حينئذٍ لا إضمار، فتقول يحسنُ ويسيءُ ابناك، وإن اختلفا أضمرته مؤخرا، نحو ضربني وضربت زيداً هو، ضربني هو هذا أخره -وهذا سيأتي معنا-، والمعتمد ما عليه البصريون، هذا هو القول المعتمد ما ذهب إليه البصريون، وهو وجوب إضمار ضمير الرفع في الأول عند إعمال الثاني؛ لأن العمدة يمتنع حذفها: (وَحَذْفَ فَضْلَةٍ أَجِزْ)، إذاً العمدة لا يجوز حذفها، هذا هو الأصل.

ولأن الإضمار قبل الذكر الذي احتج به -فروا منه الكوفيون-، قد جاء في غير هذا الباب: رُبَّهُ رجُلاً، (رُبَّهُ) مجرور رب (ها) ضمير عاد على رجلاً، وهو متأخر في اللفظ والرتبة، مغتفر في باب: رُبَّ (رُبَّهُ فِتيةً)، (فِتيةً): هذه تمييز ورجع إليه مجرور رُبَّ، حينئذٍ نقول هذا مغتفر؛ لأنه عاد على متأخر في اللفظ والرتبة، ونِعم رجلاً زيدٌ، (نِعم) فيها فاعل ضمير مستتر يعود على رجلاً وهو تمييز.

وقد سُمع أيضاً في هذا الباب من ذلك ما حكاه سيبويه من قول بعضهم: ضربوني وضربت قومك، ضربوني (بالواو) وضربت قومك، حينئذٍ أعمل الثاني فنصب قومك، وأضمر في الأول الفاعل، فقال: ضربوني، إذاً سمع في باب التنازع، ومنه قوله (جَفَوْني ولمْ أَجْفُ الأَخِلاَّءَ)، يعني جفوني الإخلاء، (الواو) هنا تعود على الأخلاء حينئذٍ أَضمر في الأول الفاعل وأعمل الثاني في الأخلاء.

وما استدلوا به مؤول، وكل ما احتمل التأويل بوجه سائغ، إذاً حمل عليه ولا يعترض به على الأصل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015