وعلى قول هؤلاء المعتزلة يكون هناك من يخلق مع الله، ولا يكون الله هو الذي يخلق وحده، وعقيدة المعتزلة أن كل إنسان يخلق فعله، وأن الله لا يقدر على أفعال العباد، وأنه لا يستطيع أن يهدي هذا ولا يضل هذا، وأن قدرة العبد تغلب قدرة الله، فإذا أراد العبد أن يعصي وأراد الله ألا يعصي غلبت قدرة العبد على قدرة الخالق تعالى، فهذا هو معتقدهم في أن العبد يخلق أفعاله دون أن يكون لله قدرة على رده.
ويزعمون أن هذا هو العدل فيقولون: إنه لو خلق الأفعال في العبد ثم عذبه عليها لاعتبر ظالماً له، وهذا هو سبب غلوهم في القدر حتى جعلوا هنالك من يخلق مع الله تعالى، ولم يجعلوا الخلق والأمر لله، فخالفوا قول الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] ، فالخلق لله وحده والأمر الذي هو الشرع لله وحده.
ولأجل ذلك وردت هذه الأحاديث في أن: (القدرية مجوس هذه الأمة) ، وهذه الأحاديث مروية في السنن ولكن فيها مقال فلا يثبت رفعها، وإنما الصحيح أنها موقوفة، يعني: أنها من كلام الصحابة.
ولا شك أن كلام الصحابة معتبر؛ وذلك لأنهم هم الذين شاهدوا نزول الوحي، وهم الذين نقلوا لنا الشرع عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا حذرونا من هؤلاء القدرية وقالوا: إنهم يجعلون مع الله من يخلق وإنهم مجوس هذه الأمة؛ لم يقولوا ذلك إلا عن توقيف، ولا بد أنهم عرفوا ذلك عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وعن طريق شريعته، هذا هو السبب في كون أقوالهم أصبحت معتبرة.
ومعنى كونهم مجوس هذه الأمة أن المجوس كما تقدم في أول الكتاب -ويسمون الثانوية- يدعون أن الخلق صدر عن اثنين: النور خلق الخير، والظلمة خلقت الشر، فيدعون أن الخلق صادر عن خالقين.
القدرية يقولون: الله هو الذي خلق الإنسان ولكن الإنسان يخلق أعماله وأفعاله، فيجعلون مع الله من يخلق ولا يجعلون الأفعال مخلوقة لله تعالى، ويخالفون قول الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] ، وقد تقدم أنهم يخشون بذلك أن يحتج محتج بالقدر على المعاصي.
يقول العلماء: إنهم لما اعتقدوا هذا الاعتقاد السيئ، وهو أن العبد هو المستقل بفعله، وأن الله ليس بقادر على أن يخلق أفعال العباد لا خيراً ولا شراً، خلى الشيطان بينهم وبين الأعمال فأصبحوا يتعبدون ويكثرون من التمسك، ويأتون بأنواع التنفلات والقربات، ويبتعدون عن المحرمات صغائرها وكبائرها، لأن من عقيدتهم أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة، وأن الكبيرة توجب الخلود في النار، ويسمون ذلك إنفاذ الوعيد، فالوعيد الذي ورد في الشرع لا بد أن ينفذ، ومن توعده الله بأية عذاب فإنه يحكم بخلوده في النار.
فأهل المعاصي عندهم مخلدون في النار لا يخرجون منها، ويستدلون بمثل قول الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] ، وبقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة:37] ، وبقوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:22] ، وما علموا أن هذه الآيات في الكفار الذين حكم بأنهم مخلدون فيها، أما العصاة الذين أذنبوا ذنوباً فسيأتينا أنهم يخرجون من هذه بشفاعة الشافعين، وبرحمة أرحم الراحمين، وبكل حال فهؤلاء مجوس هذه الأمة، وهذا هو قولهم.
وأما مخافتهم أن يحتج محتج بالقدر على فعل المعاصي، فقد ذكرنا أن من عقيدة أهل السنة: أن المعاصي إذا صدرت عن العبد نسبت إليه مباشرة ونسبت إلى الله تعالى تقديراً، ولما كانت تنسب إلى العبد مباشرة وإيجاداً استحق ذلك العبد أن يعاتب عليها وأن يعاقب، وكذلك الطاعات تنسب إلى العبد مباشرة وتنسب إلى الله خلقاً وتقديراً، وإذا كان كذلك فلا حجة للمجبرة على فعل الذنوب، ونعرف بذلك أن كلتا الطائفتين خاطئة: أعني القدرية الذين ينفون قدرة الله على أفعال العباد، والمجبرة الذين يعذرون العبد في الأفعال ويقولون إن تعذيبه على أفعاله ظلم، حيث إنه ليس له أية اختيار، فنقول: إن له اختياراً لكن اختياره مسبوق باختيار الله تعالى، وله قدرة ولكن قدرته مغلوبة بقدرة الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما قدرة الله على كل شيء فهو الذي يكذب به القدرية جملة، حيث جعلوه لم يخلق أفعال العباد فأخرجوها عن قدرته وخلقه، والقدر الذي لا ريب في دلالة الكتاب والسنة والإجماع عليه، وأن الذي جحدوه هم القدرية المحضة بلا نزاع هو: ما قدره الله من مقادير العباد، وعامة ما يوجد من كلام الصحابة والأئمة في ذم القدرية يعنى به هؤلاء، كقول ابن عمر رضي الله عنهما لما قيل له يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف: (أخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني برآء) ] .