قال المؤلف: [والقدر الذي هو التقدير المطابق للعلم يتضمن أصولاً عظيمة: أحدها: أنه عالم بالأمور المقدرة قبل كونها، فيثبت علمه القديم، وفي ذلك الرد على من ينكر علمه القديم.
الثاني: أن التقدير يتضمن مقادير المخلوقات، ومقاديرها هي صفاتها المعينة المختصة بها، فإن الله قد جعل لكل شيء قدراً قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، فالخلق يتضمن تقدير الشيء في نفسه بأن يجعل له قدراً، وتقديره قبل وجوده، فإذا كان قد كتب لكل مخلوق قدره الذي يخصه في كميته وكيفيته، كان ذلك أبلغ في العلم بالأمور الجزئية المعينة، خلافاً لمن أنكر ذلك وقال: إنه يعلم الكليات دون الجزئيات! فالقدر يتضمن العلم القديم والعلم بالجزئيات.
الثالث: أنه يتضمن أنه أخبر بذلك وأظهره قبل وجود المخلوقات إخباراً مفصلاً، فيقتضي أنه يمكن أن يعلم العباد الأمور قبل وجودها علماً مفصلاً، فيدل ذلك بطريق التنبيه على أن الخالق أولى بهذا العلم، فإنه إذا كان يعلم عباده بذلك فكيف لا يعلمه هو؟! الرابع: أنه يتضمن أنه مختار لما يفعله محدث له بمشيئته وإرادته، ليس لازماً لذاته.
الخامس: أنه يدل على حدوث هذا المقدور وأنه كان بعد أن لم يكن، فإنه يقدره ثم يخلقه] .
الاستدلال بهذه الآيات على القدر: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، والقدر معناه: تحديد الشيء وتقدير مدته وتقدير زمانه، ومعناه: أن الله قدر الأعمال، أي: متى تحدث هذه الطاعة، ومتى تنتهي، وقدر الأعمار، فعمر الإنسان لا يزيد عما قدره الله وكتبه ولا ينقص، وقدر الوفيات وأسبابها وجعلها مكتوبة؛ بأن هذا الإنسان لا بد أن يموت بكذا وكذا، وليس له مفر مما كتبه الله عليه وما أشبه ذلك.
وورد أيضاً: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: هي من قدر الله) أي: هي مكتوبة، يعني قدر الله أن هذا يصاب بمرض وأن المرض يعالج بكذا وكذا، فهو مقدر ومكتوب أن يزول المرض بهذا السبب، ولأجل ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتداوي في قوله: (تداووا عباد الله ولا تتداووا بالحرام، فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء) ، فتعاطي هذه الأسباب لا ينافي أن العبد مكتوب عليه ما هو فاعل، ولا يقول إنسان: أنا سوف أترك هذا الفعل ولا بد لي من حصول ما كتب لي! لأن ترك الأسباب كلياً نقص في العقل.
لو رأيت إنساناً عزم على ترك الأكل والشرب واللباس ونحو ذلك، وقال: إذا قدر الله أني أتغذى فسأتغذى بدون ذلك، وإذا كان الله قد قدر لي ذلك فلا حاجة إلى أن أطعم وإلى أن أشرب وإلى أن ألبس وإلى غير ذلك! نقول: هذا نقص في العقل؛ لأن هذه الأشياء جعلها الله أسباباً حسية وأمر بتعاطيها وأباحها، فلا يكون شبع إلا بواسطة الأكل، ولا ري إلا بواسطة الشرب، ولا ولد إلا بواسطة النكاح، وكذلك الأرزاق التي أمر بالاكتساب لها، فإنه أمر بفعل هذه الأسباب حتى يحصل من آثارها الرزق، ولو كان هو الذي قدرها وهو الذي يسرها، كما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:63-64] ، فذكر أنهم يزرعون، أي: يغرسون الأشجار ويسقونها ويبذرون الحبوب وينبتونها، فأضاف إليهم الفعل، ولكن أخبر بأنه هو الذي جعل هذه الأرض قابلة لذلك حتى تصير منبتة ومثمرة ونحو ذلك، وهو الذي أوجد هذا الماء الذي به هذا الشراب، ولو شاء لغيره كما في قوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة:70] يعني ملحاً أجاجاً لا يصلح للشرب ولا للسقي ولا لغير ذلك.
فأصبح الإيمان بهذا القدر يقتضي أن نعلم بأن تفاصيل الأشياء معلومة وموجودة لله تعالى، ولكن لا تترك الأسباب الحسية، بل يفعلها الإنسان ويعلم أنها مقدرة من الله، وأنه هو الذي أمر بها ويسرها.