وإذا عرفنا ذلك فإن كلام النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً فصيح، بعثه الله باللغة الفصحى، وهو أفصح من نطق بالضاد وأفصح العرب، وكلامه أيضاً في غاية الوضوح وفي غاية الفصاحة وفي غاية البيان.
فمثلاً: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جرير: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر -أو كما ترون هذا القمر- لا تضامون في رؤيته) .
ويقول في حديث آخر: (هل تضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر؟! هل تضارُّون في رؤية الشمس صحواً ليس دونها سحاب؟! فإنكم ترونه كذلك) ، أليس هذا واضحاً في أن المراد النظر والمعاينة بالعين؟ فجاء الخلف وسلطوا عليه التأويل وقالوا: المراد ألم تعلم، فالمراد العلم، فقوله: (فإنكم سترون ربكم) يعني: ستعلمون ربكم.
هم يعلمونه في الدنيا، فكيف قالوا ستعلمون، وكأنهم ما علموا؟! إذ (السين) للاستقبال، ولو كان هذا مراده لقالوا: نحن نعلم ربنا، ونحن نعلم أنه ربنا.
ولكنه قال: (سترون ربكم) يعني: يوم القيامة في الآخرة وفي الجنة.
ثم لماذا قال: (كما ترون القمر) ؟! هل هم كانوا يرون القمر في تلك الساعة؟! وإذا كانوا يرونه هل يشكون في أن هذا هو القمر؟! وكيف يقاس على قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [الفيل:1] يعني: ألم تعلم؟! أو: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} [إبراهيم:24] يعني: ألم تعلم؟! وكذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا} [المجادلة:8] ؟ وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} [المجادلة:7] ؟! وقوله تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} [الحشر:11] ؟! فالمراد هنا الرؤية العلمية، يعني: ألم ترَ بقلبك؟! فلا مناسبة بين هذه وبين قوله: (سترون ربكم) ، فهنا دخلت السين، يعني أنه في المستقبل، وهنا أكد بقوله: (كما ترون القمر ليلة البدر) ، (كما ترون هذا القمر لا تضامون) أي: لا تشكون في رؤيته.
وبينهما فرق، فعرف بذلك أن هذه تأويلات بعيدة لا يحتاج إليها ولا يصدقها عاقل.