الواجب علينا أن نقبل الصفة التي جاءتنا على ظاهرها، سيما إذا كانت صريحة بعيدة عن التوهمات، وأن نحملها على المحمل الذي يمكن أن تتحمله، وأن ننزه كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن الاحتمالات البعيدة التي فيها شيء من التكلف، وفيها صرف للفظ عن متبادرٍ منه وعما يفهمه المخاطَب لأول وهلة.
وذلك أن كلام الله تعالى أفصح الكلام وأوضحه وأجلاه معنىً، وأقرب إلى أن يُفهم، ولا يحتاج إلى إيضاح زائد، وليس ككلام أهل الألغاز وأهل الإشارات القوية، وهكذا أيضاً كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه أفصح الخلق وأنصحهم، وإذا كان فصيحاً فلا بد أنه سيتكلم بما يعرفه ويفهمه المخاطَبون، وكذلك إذا كان أنصح الخلق وأحبهم لمعرفة الأمة وأحبهم لمنجاتها وأحبهم لإبعادها عن الأشياء الوهمية.
فإذا كان كذلك فلا بد أنه يوضح لهم ولا يسوق لهم الكلام ملتبساً، ولا يتكلم بالكلام المُبهِم، حاشاه أن يتكلم بكلام يُفهم منه غير الذي أراد، والصحابة رضي الله عنهم تقبلوا كلامه وحملوه على ما هو عليه دون أن يسألوه ويناقشوه، ودون أن يفسروا كلامه بما لا يحتمله، حتى جاء الخلف المتأخرون الذين هم كما قال في قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} [الأعراف:169] ، يعني أنهم قاموا مقامهم في وراثة الكتاب، ولكنهم لم يعملوا به، فهؤلاء الخلف الذين جاءوا بعد السلف هم الذين عملوا هذه الأعمال، وهي التأويلات البعيدة، التي تكلفوا فيها وصرفوها عما هو مقصود بها.
فقد تقدم قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، والوجوه معروف أنها محل العيون، فالعينان مركبتان في الوجه، فإذا كان الوجه مقابلاً فإن العين تنظر.
فالله قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] ، وقال تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة:24] ، وفي سورة أخرى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية:2] ، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:8] .
فجعل الوجوه علامة على الشقاء أو السعادة، كما في آية أخرى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] ، فالوجه هو الذي تكون فيه علامة الإشراق والسعادة، أو علامة الاسوداد والشقاوة.
فإذاً قال الله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، وأيُّ كلام أفصح من هذا الذي يُفهم منه أن الوجوه تنظر إلى ربها؟! ثم جاء هؤلاء الخلف وسلطوا التأويل عليه وقالوا: إن المراد بالنظر هنا الانتظار، أو المراد نظر الثواب لا نظر الرب تعالى، فقالوا: (إلى ربها) يعني: إلى ثواب ربها.
وما الدليل على هذا المقدر؟ وهل في الكلام محذوف؟ إن الله تعالى أعلى من أن يوهِم في كلامه أو يجعلَه خفياً ليس بجلي، فكيف يقال: ناظرة إلى ثواب الله أو إلى آلائه أو إلى نعمه؟!