قال رحمه الله: [ويحكى عن أبي حنيفة رحمه الله أن قوماً من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية، فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها فترسي بنفسها، وتفرغ وترجع، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد!! فقالوا: هذا محال، لا يمكن أبداً! فقال لهم: إذا كان هذا محالاً في سفينة فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟! وتحكى هذه الحكاية أيضاً عن غير أبي حنيفة] .
هؤلاء قوم من الملاحدة عندهم شك في توحيد الربوبية وفي وجود الخالق سبحانه، فجاؤوا إلى أبي حنيفة العالم المشهور وأرادوا أن يمتحنوه، ولكنه امتحنهم قبل ذلك بهذا السؤال، ولا شك أنه شيء محسوس واقع، يقول: ما يصدق العاقل أن هناك سفينة تمشي بنفسها تحمّل نفسها من الذخائر وترسي في البلد المعين لا تخطئه، وتنزل حمولتها من نفسها، وترجع من حيث جاءت! فالسفينة خشبة وجماد ليس لها عقل ولا إدراك، فكيف يتصور أنها تسلك الطريق، وأنها ترسو في المكان المعد لها، وأنها تمتد إلى الأثاث والمتاع والأطعمة وتحملها، وأنها ترسي وتنزل المتاع عن ظهرها؟! لا يمكن تصور هذا.
ومثلها أيضاً المراكب الجديدة كالسيارة -مثلاً-؛ فإنها لا تتحرك بنفسها، ولو قيل لك: إن هناك سيارة أو طائرة أو باخرة تتحرك بنفسها، وإنها تذهب إلى البلد الذي تريده ولا تخطئ طريقها، وإنها إذا وقفت في الأسواق حملت نفسها من الأرزاق ومن الأكسية والأمتعة ونحوها وجاءت إلى البلد المحتاج ونزلت من نفسها!! فهل يصدق بهذا عاقل؟ هذا محال.
يقول: إذا كان هذا محالاً فإننا نشاهد هذا الكون مدبراً أتم تدبير، فهل يصدق عاقل أنه وجد بالصدفة من غير موجد؟ هذه الكواكب التي تطلع وتغرب في سير منتظم، لا يتقدم هذا عن وقته، ولا هذا عن وقته، وهذه الشمس وهذا القمر اللذان سيرهما في الشتاء له حد، وفي الصيف له حد، وهذه الرياح التي تثور أحياناً وتسكن أحياناً، وهذه البحار، وهذه الأنهار، وهذه الأشجار، وهذه المخلوقات المنبثة في البر وفي البحر، والحيوانات والجماد، هل يعقل أنها وجدت بالصدفة؟! لا يمكن، فإذا كان هذا لا يمكن فلابد لها من موجد، وكما أن السيارة لابد لها من محرك، فكذلك هذه الموجودات لابد لها من مسير وهو الخالق وحده الذي يقول: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:15-16] ، {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس:22] ، هو الذي سخر ذلك، وهذه حجة عقلية تدمغ كل منكر وكل ملحد.