قال رحمه الله: [فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية الذي يقر به هؤلاء النظار، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف، ويجعلونه غاية السالكين، كما ذكره صاحب (منازل السائرين) وغيره، وهو مع ذلك إن لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ما سواه، كان مشركاً من جنس أمثاله من المشركين] .
توحيد الربوبية هو الغاية عند أهل الكلام، وهو الذي يفنى فيه المتصوفون، أي: يجعلون أكبر مقصد وأكبر مطلب عندهم هو الاعتراف بأن الله موجود وبأنه خالق ورازق، وبأنه مدبر، هذا هو الغاية عندهم، ولكن ليس هو الغاية عند أهل الحق، بل الغاية والمطلب هو توحيد العبادة، الذي هو عبادة الله والقيام بحقه.
فالمتصوفة يفنون في توحيد الربوبية، ومعنى كونهم يفنون فيه: أنهم يبالغون في تعلمه إلى أن يأتي عليهم شيء يسمونه الفناء، وهذا هو الغاية عندهم.
والمتكلمون أيضاً كذلك، يجعلونه هو الغاية، حتى إنهم يقولون: معنى (لا إله إلا الله) : لا خالق إلا الله.
وهذا ليس بصحيح؛ فإن المشركين يعرفون أنه لا خالق إلا الله، ولكن لم ينفعهم حين عبدوا غيره معه، فلابد أن يكون الاعتراف بأنه لا إله يعني: (لا معبود بحق إلا الله) ، وهذا هو توحيد العبادة الذي يعتبر الغاية عند أهل الحق.
والمتكلمون يراد بهم أهل الكلام من المعتزلة ونحوهم، والمتصوفون يراد بهم الصوفية، والصوفية هم أهل العبادات السرية، فهم يبالغون في العبادات القلبية، ولكنهم يقعون في البدع، ومن جملة بدعهم أنهم ينعزلون عن المسلمين وعن العبادات ونحو ذلك، وأن أحدهم يبقى معتزلاً مدة طويلة حتى يحصل له حضور قلبه ومشاهداته، فيترك لذلك شهود الصلوات، ويقول: إني إذا ذهبت أصلي تفرق علي قلبي، فأنا الآن أفكر وأجمع همومي، وإذا قمت تفرقت هذه الهموم التي جمعتها.
والصوفية موجودون بكثرة في كثير من البلاد، ولهم تمكن، وقد انخدع بهم خلق كثير، ومع ذلك فإن متقدميهم في القرن الثالث كانوا على علم وعلى عبادة إلا أنهم زهاد، وأما المحدثون فإنهم وقعوا في عقائد سيئة وبدع عملية.