قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويرد قول من قال بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس قوله صلى الله عليه وسلم: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) ، وقال: (إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة) ، واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته، واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك، فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام] .
معلوم أن الكلام هو ما يسمع، فالساكت لا يقال إنه تكلم.
فإذا جلست إلى إنسان وهو يحدث نفسه، هل تقول: إنه تكلم بكذا وكذا؟ فما دام أنه صامت ما نطق بكلمة فإنك لا تقول: إنه تكلم، ولو أنه منذ جلست يحدث نفسه.
ثم مثل الشارح بقوله عليه السلام: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) ، وهذا حديث معاوية بن الحكم رضي الله تعالى عنه: (أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فعطس رجل في الصلاة، قال: فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت وأنا في الصلاة: واثكل أمياه، ما لكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون أفخاذهم، ففهمت أنهم يسكتونني، فسكت، فلما خرجت دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو الذكر والدعاء وقراءة القرآن) ، فجعل هذا كلاماً يبطل الصلاة، ولكنه عذره بكونه جاهلاً لم يشعر بأن ما يقوله مبطل.
والحديث الثاني: (إن مما أحدث الله ألا تتكلموا في الصلاة) يعني: مما تجدد به الوحي أن لا تتكلم في الصلاة، وكانوا أول ما فرضت يكلم أحدهم أخاه بحاجته، فلما نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] أمروا بالسكوت ونهوا عن الكلام، فالكلام الذي يبطل الصلاة هو اللفظ الذي يسمع، والكلمات التي ينطق بها الإنسان وتخرج من بين شفتيه، ويسمعها من حوله.
فلو أن إنساناً قال لآخر عمداً: أنصت، أو قم، أو تعال، أو نحو ذلك متعمداً وهو عالم أنه في صلاة بطلت صلاته، وإنما رخصوا في الكلام الذي من مصلحة الصلاة أو نحوها، أو من مكملاتها كأركان الصلاة، وكالتسبيح عندما ينوب الإمام شيء، أو ما أشبه ذلك.
فالكلام الذي يسمع وهو من غير أركان الصلاة يبطل الصلاة، وهل تبطل بحديث النفس؟
صلى الله عليه وسلم لا تبطل.
فمعلوم أنا لا نسلم غالباً -نستغفر الله- من حديث النفس، وأينا لا يحدث نفسه؟! كما روي أن ابن سعد قال لأبيه: يا أبت! أرأيت قول الله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5] أينا لا يسهو؟ أينا لا يحدث نفسه؟ فقال: ليس بذاك، إنما سهوا عن وقتها.
يعني: يؤخرونها حتى يخرج وقتها؛ لأنه قال: (عن صلاتهم) ، ولم يقل: في صلاتهم، فالسهو في الصلاة وإن كان ينقص لكنه لا يبطلها، ولأجل ذلك يقع السهو كثيراً من المصلي، ولأجل ذلك شرع سجود السهو، علم الله أنه يحصل السهو فيزيد المرء في الصلاة بسبب اشتغال قلبه وبسبب حديث نفسه، وينقص منها، ويقدم أو يؤخر أو نحو ذلك؛ وذلك لأن قلبه قد يشتغل بشيء من حديثه أو من أموره الدنيوية، فيغفل عما هو مقبل عليه فيسهو، فحديث النفس لا يسمى كلاماً، ولو كان يسمى كلاماً لبطلت به الصلاة؛ لأنه عليه السلام قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) ، فعلم أن حديث النفس لا يسمى كلاماً.
ولأجل ذلك يرد على هؤلاء الذين يقولون: إن الكلام هو ما يقوم بالنفس.
بل نقول: ليس كذلك، إنما الكلام هو ما يسمع وما ينطق به المتكلم، هذا هو حقيقة الكلام، وأما غير ذلك فإنه يسمى وسوسة، أو حديث نفس، أو سهواً، أو ما أشبه ذلك.