ثم يحتج عليهم الشارح بأنه تكلم على عقيدة النصارى؛ وذلك لأن النصارى ضلوا في مسمى الكلام الذي نحن في تعريفه، فعندهم أن عيسى نفس كلمة الله، فيقولون: إنه نفس الكلمة، وإنه هو الكلمة.
والصحيح أنه خلق بها لا أنه هي.
يقولون: إن قوله: (كن) هو نفس الكلمة، فعيسى هو الكلمة، وهو (كن) في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] ، فهو خلقه وقال له: (كن) ، كما خلق آدم وقال له: (كن) ، وسمي كلمة الله في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ منه} [النساء:171] والكلمة التي ألقاها هي قوله: (كن) ، فـ (كن) كلام الله، خلق بها كما خلقت سائر المخلوقات بقول: (كن) {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] .
فالنصارى ضلوا في هذا الباب، واعتقدوا أن عيسى نفس الكلمة، وإذا كان هذا شاعراً نصرانياً، فإنه تكلم بالبيت على عقيدة النصارى، فكيف نقلد النصارى فيما اعتقدوا؟ وهذا كله على تقدير أن البيت ثابت.
ثم لسنا بحاجة إلى الاستدلال بأقوال النصارى، وكتاب الله وسنة نبيه وكلام العرب واضح في أنه يسمى المتكلم متكلماً، والذي لا يتكلم يسمى أخرس، ومعلوم أنه قد يقوم بقلب الأخرس كلام، وقد يشير إليه، وإذا أشار إليه فهم منه، فمعناه أن الأخرس الذي لا ينطق- وهو الأبكم- يسمى متكلماً على قول هؤلاء الأشاعرة، فعرف بذلك أنه لا دلالة لهم في ذلك، وأن القول الثابت والصحيح أن الكلام هو اللفظ والمعنى جميعاً، ليس هو المعنى الذي يستشهد له بهذا البيت.
قال رحمه الله تعالى: [وهنا معنى عجيب، وهو أن هذا القول له شبه قوي بقول النصارى القائلين باللاهوت والناسوت؛ فإنهم يقولون: كلام الله هو المعنى القائم بذات الله الذي لا يمكن سماعه، وأما النظم المسموع فمخلوق.
فإفهام المعنى (القديم) بالنظم المخلوق يشبه امتزاج اللاهوت بالناسوت الذي قالته النصارى في عيسى عليه الصلاة السلام، فانظر إلى هذا الشبه ما أعجبه] .
اللاهوت عندهم الإله، والناسوت: الناس، والنصارى يدعون أن اللاهوت اتصل بالناسوت، فتكون منهما هذا الإنسان، وتبعهم على هذا الاعتقاد أيضاً ملاحدة يقال لهم: أهل الاتحاد وأهل الوحدة.
فعندهم أن اللاهوت متصل بالناسوت ومتحد معه، وفي ذلك يقول حلاجهم: سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب حتى بدا في خلقه ظاهراً في صورة الآكل والشارب هذا معناه لعنه الله، ولا شك أن هذا أكفر الكفر، ولا شك أن الله تعالى هو الخالق وما سواه المخلوق، وأنه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، فكلام النصارى في قولهم: إن عيسى هو عين الكلمة، وإن الكلمة جزء من ذات الرب سبحانه وتعالى شبيه بقول الاتحادية الذين يزعمون كزعم النصارى أن اللاهوت اتحد بالناسوت، وأصبح شيئاً واحداً، وأن من جملة ذلك عيسى، فإنه وجد من أنثى، ولكن بعد اتصال اللاهوت بالناسوت.
وجلود المؤمنين تقشعر من أن يتصور هذا التصور، ولكن قلوب أولئك صدت عن معرفة الحق وزين لهم هذا الباطل والعياذ بالله.