ذكر الشارح أن الاختلاف نوعان: - اختلاف تنوع.
- واختلاف تضاد.
اختلاف التنوع هو من طبيعة البشر، ومن طبيعة المجتهدين، فلا عجب أن يقع خلاف في المسائل الفرعية بين التلميذ وشيخه، فيكون هذا له رأي وهذا له رأي، هذا يختار قولاً وهذا يختار قولاً؛ ولكن لا يصل إلى التضليل والمقاطعة.
فمثلاً نقول: إن الإمام مالك بن أنس رحمه الله، إمام دار الهجرة، تلقى العلم عن أهل المدينة الذين هم أولاد الصحابة، وسمع ما سمعه بالمدينة، وأثبته في مؤلفه الموطأ، وتتلمذ عليه الشافعي فقرأ عليه، وأخذ من علمه، وروى أحاديثه، ومع ذلك خالفه في كثير من الأمور الاجتهادية؛ ولكنه لم يخطئه، بل قال: أنا مجتهد وهو مجتهد، ولكل مجتهد نصيب، فلما قيل له: هل نصلي خلف من يقلد مالكاً؟ غضب وقال: ألستُ أصلي خلف مالك؟! أي: مالك شيخي، وأنا أصلي خلفه، ولو خالفته في بعض الأشياء التي هي أمور اجتهادية، مثلاً: كان الإمام مالك لا يجهر بالبسملة لا في الفاتحة ولا في السورة، والشافعي يجهر بالبسملة في السورة وفي الفاتحة؛ ولكن لا يعيب على من أخفى البسملة، كما لا يعيب مالك وأحمد على من جهر بها وأعلن، فهذا الخلاف لم يؤدِّ إلى تهاجُر ولا تقاطُع.
كذلك الإمام الشافعي يرى أنه يتورك في كل تشهد عقبه تسليم، وأحمد لا يتورك إلا في الصلاة التي فيها تشهدان في الأخير منهما، ومع ذلك لم يقع بينهما بسبب هذا الاختلاف تقاطُع.
وقد وقع هذا الاختلاف زمن الصحابة، فمرة سمع عمر رضي الله عنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان، واستنكر عليه حروفاً وكلمات زادها أو نقصها أو غيَّرها، فعند ذلك رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنه يقرأ على خلاف ما أقرأتني! فأقر النبي صلى الله عليه وسلم عمر على قراءته، وهشاماً على قراءته وقال: لا تختلفوا فإن القرآن أُنزل على سبعة أحرف) فأخبر بأن كلاً منهما مصيب، ونهاهم عن الاختلاف.
كذلك أيضاً ورد الاختلاف في الاستفتاحات، فتارةً كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح بقوله: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك) ، وتارةً يستفتح بقوله: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب إلخ) ، وكان يستفتح تارةً بقوله: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض إلخ) ، وتارةً يستفتح بقوله: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل إلخ) .
واختار هذا قوم، واختار هذا قوم، ولم يخطئ أحد الآخر.
كذلك أيضاً ورد الاختلاف في الأذان والإقامة، فالأذان بعضهم يجعل التشهدات فيه ثمانية، وبعضهم يجعلها أربعاً، وكلمات الإقامة بعضهم يجعلها سبع عشرة، وبعضهم يجعلها إحدى عشرة، وذلك من باب الاجتهاد أيضاً، وذلك لأن هذا رُوي، وهذا رُوي؛ مما يدل على التوسعة.
كذلك مثلاً تكبيرات الجنازة، رُوي أنه كبر أربعاً، وأنه كبر خمساً، وأنه كبر ستاً، ولم يقل أحد: إن من كبر خسماً فقد أخطأ.
كذلك أيضاً التسليم في صلاة الجنازة، روي أنه كان يسلم تسليمتين، وتارةً يسلم تسليمة واحدة، ولا يُخطَّأ من فعل هذا، ولا يُخطَّأ من فعل هذا؛ لأن هذا مروي، وهذا مروي أيضاً.
كذلك عدد التكبيرات في صلاة العيد، منهم من قال: يكبر في الأولى سبعاً، ومنهم من قال: تسعاً، وليس أحدهما بمخطئ، بل هذا مروي وهذا مروي.
وأنواع الاختلافات في مثل هذا يسمى اختلاف تنوع.
وقد سئل الإمام أحمد عن صلاة الخوف، وقد رويت بست روايات مختلفة، فقال: من صلاها على صفة ثابتة من الصفات المروية فلا أعيب عليه؛ ولكن أختار رواية سهل بن أبي حثمة، وهي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع، وقال: إنها أقرب إلى نص القرآن، أي: الآية التي في سورة النساء، فلم يخطئ غيره؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم صلاها هكذا وهكذا.
كذلك صلاة الكسوف رُوي أنه ركع في الركعة ركوعاً واحداً، ورُوي أنه ركع في الركعة ركوعين، ورُوي أنه ركع في الركعة ثلاثة ركوعات، ورُوي أربعة ركوعات، ورُوي خمسة ركوعات، وهو أقصاها، وحملوه على أن ذلك وقع تكراراً؛ تارةً اقتصر على ركعة، وتارةً ركع ركوعين، وتارةً ثلاثة إلى خمسة، أي: أن ذلك وقع منه متكرراً، وذلك دليل على الجواز، وكأنه لاحظ طول الوقت، كأنه يقول: إذا كان الوقت يحتمل أن يتمادى الكسوف أطال وأكثر الركوعات إلى خمسة ركوعات في كل ركعة، أي: عشرة ركوعات في الركعتين، وإن كان الكسوف سهلاً فإنه يقتصر على ركوع أو ركوعين، وذلك أيضاً من باب الاجتهاد أو من باب التوسعة.
وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في أشياء كثيرة؛ ولكن لم يصل بهم هذا الاختلاف إلى أن يضلل بعضُهم بعضاً، بل كل منهم يرى أنه على صواب، وأن صاحبه مجتهد ومعذور، ولم يكن أحد يخطِّئ صاحبه.