قال الشارح رحمه الله: [فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث الله به الرسول: - إما عادلون.
- وإما ظالمون.
فالعادل فيهم: الذي يعمل بما وصل إليه من آثار الأنبياء ولا يظلم غيره.
والظالم: الذي يعتدي على غيره.
وأكثرهم إنما يظلمون مع علمهم بأنهم يظلمون كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ} [آل عمران:19] ، وإلَّا فلو سلكوا ما علموه من العدل أقر بعضهم بعضاً كالمقلدين لأئمة العلم، الذين يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن معرفة حكم الله ورسوله في تلك المسائل، فجعلوا أئمتهم نواباً عن الرسول، وقالوا: هذا غاية ما قدرنا عليه.
فالعادل منهم لا يظلم الآخر، ولا يعتدي عليه بقول ولا فعل، مثل أن يدعي أن قول مقلده هو الصحيح بلا حجة يبديها، ويذم من خالفه مع أنه معذور.
ثم إن أنواع الافتراق والاختلاف في الأصل قسمان: - اختلاف تنوع.
- واختلاف تضاد.
واختلاف التنوع على وجوه: - منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقاً مشروعاً، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة رضي الله عنهم حتى زجرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (كلاكما محسن) .
ومنه اختلاف الأنواع في صفة الأذان، والإقامة، والاستفتاح، ومحل سجود السهو، والتشهد، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، ونحو ذلك مما قد شرع جميعه، وإن كان بعض أنواعه أرجح أو أفضل.
ثم تجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيتارها ونحو ذلك! وهذا عين المحرم، وكذا تجد كثيراً منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع، والإعراض عن الآخر والنهي عنه؛ ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
- ومنه ما يكون كل من القولين هو في المعنى القول الآخر؛ لكن العبارتان مختلفتان، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود، وصيغ الأدلة، والتعبير عن المسميات، ونحو ذلك، ثم الجهل أو الظلم يُحمل على حمد إحدى المقالتين، وذم الأخرى، والاعتداء على قائلها، ونحو ذلك.
وأما اختلاف التضاد: فهو القولان المتنافيان إما في الأصول وإما في الفروع عند الجمهور الذين يقولون: المصيب واحد، والخطب في هذا أشد؛ لأن القولين يتنافيان؛ لكن نجد كثيراً من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما، أو معه دليل يقتضي حقاً ما، فيرد الحق مع الباطل، حتى يبقى هذا مبطلاً في البعض، كما كان الأول مبطلاً في الأصل، وهذا يجري كثيراً لأهل السنة] .
لا شك أن التفرق والاختلاف من حيث هو فيه ضرر على الأمة، وفيه سبب لتفرقة الكلمة، ومما يسببه أيضاً كثرة المنازعات والمجادلات بين الأمة وبين الأفراد والجماعات ونحو ذلك، ومما يسببه أيضاً كثرة التحزبات والانتصار من هؤلاء لقولهم، ومن هؤلاء لقولهم، ويوقع في التعصب والتشدد، ورد الأقوال المخالفة بنوع من التعسف والتكلف في رد الأدلة وما أشبه ذلك.
وهذا بلا شك مذموم، ويعرفه المتخصصون الذين قرءوا في كتب الخلاف، وأما الذين لم يقرءوا فنحن ننصحهم بألَّا يقرءوا في مثل هذه الخلافات التي تحصل بين المختلفين، وفيها كثير من المماحكات والمنازعات والمُجادلات.