تفرق أهل الخير بقوتهم وبسيطرتهم من مفاسد التحزب، الواجب عليهم كلهم أن يرجعوا إلى كتاب الله وسنة رسوله، هذا هو الحكم فليس لنا إلا مرجع واحد، ونحن أمة واحدة كما أمرنا الله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92] فإذا كانت الأمة واحدة فليكن منهجها واحداً، وليتركوا هذه التحزبات والاختلافات، قد حصل هذا التفرق الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكن لنعرف ما هو الحق وما هو الصواب من تلك الفرق، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن (هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلَّا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) وأخبر بأن الذين تمسكوا بسنته وبما كان عليه أصحابه هم أهل النجاة، وما سواهم فإنهم أهل الهلاك، ولقد وقع هذا التفرق في الأمة فتفرقت وصاروا أحزاباً وشيعاً، وسُموا بأسماء مبتدَعة ما أنزل الله بها من سلطان، فهناك فرقة الرافضة، وهناك فرقة الجهمية، وهناك فرقة الجبرية، وفرقة المرجئة، وفرقة كذا وفرقة كذا من الفرق القديمة.
وهكذا أيضاً الفرق الجديدة: فرقة الشيعة، وفرقة الإباضية مثلاً، وفرقة البعثية، وفرقة الحداثية، وفرقة العلمانية، وأشباهها.
هؤلاء كلهم أو جلهم يقولون: نحن أهل الحق والصواب في جانبنا، ونحن على حق، وأنتم الذين خالفتمونا ضالون مضلون، وأشباه ذلك.
ولا شك أن هذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نقول: المرجع كتاب الله، هذا كتاب الله ينطق بيننا بالحق، فنجعله حكماً ونترك ما سواه، ولا نتعصب لأقوالنا، فنرد ما خالف قولنا بأنواع من التكلفات كما تفعله الجهمية والجبرية ونحوهم.
ذلك لأن هؤلاء الذين خالفوا الحق قد أخبر الله تعالى بأنهم زائغون، يقول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] فهؤلاء يتمسكون بظواهر لا دلالة فيها، ويتتبعون آيات ويقولون: إنها في جانبنا، وهي عليهم لو تأملوا؛ ولكنهم يأخذون منها جانباً ويتركون البقية، ويتركون الآيات الصريحة الواضحة الدلالة، التي تخالف منهجهم ومعتقدهم، ويسلطون عليها التأويلات، وكذلك يتركون صريح السنة وصحيحها، ويردونها بأنها لا تفيد إلَّا الظن، وبأنها آحاد، وبأنها وبأنها فيقعون في رد السنة، وفي رد الدليل الواضح من حيث لا يشعرون.
نقول: لا شك أن هذا الفعل فعل شنيع مستبشع، وهو أخذهم ببعض من الآيات وترك بعض الآيات، فهذا هو الذي سلكه أهل الزيغ الذين يتتبعون المتشابه منه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم) يعني: فأولئك هم الزائغون، لا شك أن زيغ القلوب من أشد الأمراض، يقول الله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] ، والزيغ: هو الميل والانحراف يعني: أن في قلوبهم مرض، وفيها انحراف عن الحق وعن قبوله، فدل على أن مثل هؤلاء زائغون.
فمثلاً الرافضة اليوم يقولون: نحن على الحق، ويتمسكون مثلاً بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليردن علي أقوام، فإذا عرفتهم حيل بيني وبينهم، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! إنهم لم يزالوا مرتدين منذ فارقتَهم) يستدلون بهذا الحديث على أن الصحابة كلهم ارتدوا، وأنهم لم يبق منهم أحد على الحق إلا علي وذريته، ويستدلون على فضيلته وأفضليته بحديث: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلَّا أنه لا نبي بعدي) ، وبحديث: (من كنت مولاه فـ علي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه) ويتركون الأحاديث الصريحة الصحيحة التي وردت في فضل الصحابة وفي فضائلهم وهي مشهورة، ويتركون أيضاً الآيات الواضحة التي تنص على فضائلهم، وعلى مدائحهم، فيتركون الصحيح الواضح ويتمسكون بأشياء لا دلالة فيها.
ونقول لهم: هذا الحديث يختص بأهل الردة الذين ارتدوا وماتوا وهم مرتدون بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقاتلهم أبو بكر، وقاتلهم علي، وقاتلهم الخلفاء، أما هؤلاء الخلفاء فلم يغيروا بعد موته، بل تمسكوا بسنته غاية التمسك.
وأما قوله: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) فالمراد القرابة والأخوة، لا أنه يُفضل بهذا على غيره.
ومثلاً الخوارج الذين يكفِّرون بالذنوب وبالسيئات، ويُخرجون العاصي أو المذنب من الإسلام ويُدخلونه في الكفر، ويستحلون دمه، ويخلدونه في النار إذا مات على ذلك، قد يتشبثون ببعض الأدلة وببعض الآيات في تخليد العصاة في النار كقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] ، {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة:37] ، {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20] ، وينكرون الشفاعة، وينكرون خروج العصاة من النار.
ويغفلون عن الآيات التي فيها مغفرة الله، وسعة رحمته وفضله، ويتركون الآيات الصريحة مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، ومثل قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف:156] ، ومثل قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعَاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] ، ومثل أحاديث الشفاعة التي تعم كل من قال: لا إله إلَّا الله خالصاً من قلبه، وأشباه ذلك.
ونقول لهم: الآيات التي ذكرتم خاصة بالكفار الذين كُتب عليهم الخلود؛ وذلك لأن في أولها ذكر الكفر، وذكر الشرك، فهؤلاء هم الذين لا يخرجون من النار، وإذا أرادوا الخروج منها أعيدوا فيها، وأما الذين من أهل التوحيد ودخلوها عقوبة على ذنوب مؤقتة فإنهم يخرجون منها، إذاً: فلا دلالة لكم فيما تمسكتم به من العمومات، بل الأدلة واضحة في أنكم خاطئون ومائلون وزائغون عن الحق والصواب.
كذلك مثلاً المرجئة الذين يعتقدون أن المعاصي لا تضر، ويستدلون بآيات الوعد، ويتركون آيات الوعيد، فيستدلون بقوله: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرَاً عَظِيمَاً} [النساء:40] ويقولون: إن الشرك يحبط الأعمال، فإذا كان الشرك يحبط الأعمال، فكذلك الإيمان يمحو السيئات، فلا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل.
ونقول لهم: هذا قياس فاسد، وذلك لأن الله توعد العصاة بأنواع من الوعيد، وجعل هذا الوعيد خاصاً بأنهم يعذبون في النار على قدر ذنوبهم، فنحمل على ذلك الآيات التي تمسك بها الوعيدية.
وعلى كل حال: فإذا أردنا أن نجمع هؤلاء الخوارج وهؤلاء المرجئة والمعتزلة والأشعرية والكَرَّامية والكُلَّابية والخَطَّابية وأشباههم من المبتدعة، وكذا الرافضة والزيدية والإمامية والشيعة وما أشبه ذلك، لا بد أنهم إذا تليت عليهم الأدلة الواضحة لم يستطيعوا أن ينفصلوا عنها.
وكذلك نقول للمخالفين في هذا العصر وفي هذه الأيام؛ الذين تمذهبوا وتحزبوا نقول: لا شك أن خلافاتكم هذه صريحة في مخالفة الحق والصواب، إذا رجعتم إلى كتاب الله وسنة رسوله وجدتم أنها تقدح في معتقدكم، وأن الأدلة ترد أقوالكم، وتنص على خلاف ما تقولونه، وأنكم متى فضلتم رأياً أو نظراً أو ميلاً فقد أبطلتم الأدلة، وعدلتم عن السنة، وفضلتم اتباع الأهواء والشهوات، وملتم إلى ما تمليه عليكم نفوسكم، فأصبحتم بذلك مخالفين لدينكم الذي تنتمون إليه، وهو دين الإسلام، وأصبحتم بذلك خارقين لإجماع الأمة في أن المرجع إلى كتاب الله.
ولكن هؤلاء الذين خالفوا في هذه الأزمنة، وهؤلاء الذين تمذهبوا بهذه المذاهب الجديدة، في الغالب أن انتماءهم إلى الإسلام مجرد انتماء لا حقيقة له، وإلا فلو نظرنا في مناهجهم التي يسلكونها لوجدناها تخالف الإسلام، تخالفه مخالفة كلية.
فهذا ما يتعلق بأحد النوعين من الاختلاف، وهو اختلاف التضاد الذي كل واحد من الصنفين يضلل الآخر ويُبَدِّعه، وهو مثل الاختلاف الذي وقع بين اليهود والنصارى، حتى اختلفوا اختلاف تضاد، حكى الله عنهم هذا الاختلاف بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113] .
فكذلك هؤلاء المختلفون فإن اختلافهم أيضاً اختلاف تضاد، كل منهم يدعي الحق في جانبه.
فالخوارج يقولون مثلاً: ليست الجبرية على شيء، وكذا يقول المجبرة.
والأشاعرة يقولون: ليست المعتزلة على شيء، وكذا تقول المعتزلة.
وأهل السنة يقولون في الجميع: لستم على شيء، وكذلك أهل السنة مع الرافضة، كل منهم يقول: إنكم لستم على شيء، هؤلاء يقولون: الحق معنا وأنتم ضالون خاطئون، وهؤلاء يقولون كذلك أيضاً.
وكذلك الفرق التي حدثت في هذه الأزمان، وتسمت بأسماء جديدة، كل فرقة تجعل الحق في جانبها، وتفضل نفسها على الأخرى، وتقدح فيما يتمسك به الآخرون.
ولكن المرجع واحد، فإذا رجعنا إلى الأصل الذي هو الشريعة الإسلامية، وتركنا ما سواهما، عرفنا أن الحق واحد لا يتعدد، وحينئذ نقول: ليس لمن خالفه عذر، بل هو ملوم، وليس بمصيب، خلافاً للمعتزلة الذين جعلوا الاجتهاد يتعدد، والحق في جانب كل من المجتهدين وقالوا: إن كل مجتهد مصيب، ونحن نقول: الاجتهاد له حدود، ثم أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المجتهد واحد، والمصيب واحد، والمجتهد المخطئ معذور إذا أخطأ، وله أجر على اجتهاده، وخطؤه معفوٌّ عنه.
وهذا إذا كان الاجتهاد له مجال، وأما الذين قامت عليهم الحجة