ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر بأن الملك يكتب هذا وهذا، ومنها: أن الإنسان يكون شقياً أو سعيداً وهو في بطن أمه، وأن الله عز وجل قد علم ذلك وكتبه، وأن العبرة تكون بالخواتيم والنهايات، والناس لا يعلمون ما قدره الله عز وجل، ولا يعرفون الخواتيم والنهايات، وإنما مطلوب منهم أن يعملوا، فلما ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (شقي أو سعيد) بعد ذلك أخبر بأن هذا الذي كتبه الله عز وجل من الشقاوة والسعادة سيصير الناس إليه، وسينتهون إلى السعادة أو الشقاوة، إما إلى السعادة التي قد قدرها الله عز وجل وقضاها، وإما إلى الشقاوة التي قدرها الله عز وجل وقضاها، ولا بد أن يصيروا إلى ذلك.
ثم قال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك: (فو الله الذي لا إله إلا هو) وهذا فيه الحلف لتأكيد الأمر في نفس السامع، وإن لم يستحلف على ذلك، وهذا لزيادة تأكيد تحققه، وإلا فإن الخبر يجب تصديقه -حلف عليه أو لم يحلف- من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هذا من زيادة التأكيد؛ لأن القسم يؤتى به للتأكيد، فهو صادق سواء حلف عليه أو لم يحلف، لكن الإتيان بالحلف زيادة في تأكيد حصوله ووقوعه طبقاً لما أخبر به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
(إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة) أي: بأعمال البر التي هي خير، والتي ثمراتها ونتائجها الوصول إلى الجنة.
(حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع) أي: ما يكون بينه وبين بلوغ الأجل إلا شيء يسير قليل جداً، فهذا فيه إشارة إلى جزء من الوقت إذا بقي هذا الوقت فإنه يحصل والعياذ بالله للإنسان انحراف عن ذلك الذي كان عليه من الخير والبر، وكان عليه من العمل الصالح، (فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) يعني: فيختم له بسوء والعياذ بالله، وتكون النهاية أنه ختم له بخاتمة السوء، ثم إن حصول هذا الذي حصل له في النهاية إنما حصل بعمله؛ ولهذا قال: (فيعمل بعمل أهل النار) هو نفسه يعمل بعمل أهل النار باختياره وإرادته يوم القيامة، وفي هذا بيان أنه لا بد من حصول واعتقاد الأمرين: الأول: أن الإنسان يعمل، وأن عمله سبب في دخوله النار، وسبب في دخوله الجنة.
الثاني: أن الإنسان مخير، فهو يفعل باختياره ومشيئته وإرادته.
ومع ذلك الجملة التي قبله: (فيسبق عليه الكتاب) تفيد أنه مخير أيضاً، بمعنى: أنه لا بد وأن يحصل له ما قدره الله عز وجل وقضاه، فلا يقال: الإنسان مخير غير مسير، ولا مسير غير مخير، وإنما هو مخير مسير، مخير: باعتبار أن عنده إرادة ومشيئة وعقل يميز بين النافع والضار، وأنه قد يقدم إلى ما ينفعه أو إلى ما يضره، وعلى ضوء ذلك يثاب ويعاقب.
ومسير: أنه لا يحصل منه شيء لم يسبق به قضاء الله وقدره ومشيئته وإرادته؛ لأنه لا يقع في ملك الله عز وجل إلا ما شاءه الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا في هذه الجملة ذكر القدر، وذكر أيضاً كون الإنسان يصل إلى ما قدر عليه من النهايات بالأعمال التي يعملها وهي مقدرة، وتلك الأعمال إما أن تكون صالحة، وإما أن تكون طالحة.
(إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع) يعني: بينه وبين بلوغ الأجل، ومعلوم أن الإنسان إذا بلغ الأجل انتقل إلى الدار الآخرة، وهو إن كان من أهل السعادة يصل إليه النعيم في قبره، وإن كان من أهل الشقاوة يصل إليه عذاب النار في قبره.