قوله: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح) وفي هذا الإيمان بالملائكة، وأن الرحم وكل به ملائكة مهمتهم أنهم يكتبون رزقه وأجله، ذكراً أو أنثى، وشقياً أو سعيداً، وهذه الكتابة هي غير الكتابة السابقة التي هي في اللوح المحفوظ؛ لأن الله عز وجل كتب في اللوح المحفوظ كل شيء كائن، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، والله تعالى يقول: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَاٌ} [الحديد:22] يعني: في اللوح المحفوظ، فهذه كتابة أخرى غير الكتابة السابقة، والملك يسأل عن الأجل والرزق، وعن: ذكر أو أنثى، وشقي أو سعيد ويكتب ذلك.
ثم في هذا دليل على أنه بعدما يكتب الملك هذه الكلمات، ويسأل الله عز وجل عنها فيجاب -وهي بيان رزقه وأجله، وذكر أو أنثى، وشقي أو سعيد- ويكون الإنسان خلق ذكراً أو أنثى فإنه لا يبقى علم الذكورة والأنوثة من العلم الذي اختص الله به؛ لأن الملك قد علم، فلم يبق من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى؛ وإذا كان الملك قد علم فإنه يمكن أن يعرف ما في البطن هل هو ذكر أو أنثى بواسطة وسائل؛ لأنه لم يبق من خصائص علم الغيب الذي يختص الله تعالى به؛ فقد علمه الملك والشيء الذي علمه غير الله عز وجل لم يكن من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا هو، نعم أنه قبل ذلك لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، لكن بعدما سأل الملك وأجيب، وعرف أنه ذكر أو أنثى صار ذلك مما علمه بعض المخلوقات، وهو الملك، فيمكن للناس أن يتمكنوا من معرفته؛ لأنه لم يبق من علم الغيب الذي اختص الله تعالى به، وفي هذا بيان أن الشقاوة والسعادة مقدرة، وأن كل شيء قد قدر، وسبق به القضاء والقدر، وأن الناس يصيرون إلى ما قدر لهم، ولكن ذلك بأفعالهم وأعمالهم، وليس قسراً لهم وقهراً وجبراً، وإنما يقدمون على ما يقدمون عليه بإرادتهم ومشيئتهم، فيتحقق بذلك ما سبق أن قدره الله عز وجل وقضاه من كون الإنسان شقي أو سعيد.