فإذاً: قبل نفخ الروح فيه هي الموتة الأولى التي جاءت في القرآن في سورة غافر في ذكر الموتتين والحياتين، وفي سورة البقرة بالتفصيل لهذه الموتات الأربع، والموتة الأولى هي التي تكون قبل نفخ الروح، حيث يكون الشخص فيها نطفة وعلقة ومضغة، وكما فصل الله عز وجل هذه الموتات الأربع في آية البقرة، وكذلك الآية التي في سورة الحج: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الحج:66] ((وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ)) أي: بعدما كنتم أمواتاً، والموت: هو الذي كان بعد وجود خلق الإنسان ولم تنفخ فيه الروح، وليس المقصود بذلك العدم قبل أن توجد النطفة؛ لأن العدم لا يوصف بالموت، والله عز وجل أخبر بأن الموت مخلوق فقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك:2] فهو من الصفات الوجودية، وليس من الصفات العدمية؛ ولهذا أخبر أنه خلق الموت.
إذاً: فإن الموتة الأولى هي الحالة التي يكون الإنسان فيها في بطن أمه قبل أن تنفخ فيه الروح، وقبل أن تحصل له الحياة باجتماع الروح والجسد؛ لأنه باجتماع الروح والجسد تحصل له الحياة، وقبل ذلك الحياة غير موجودة، وإذا نزعت الروح من الجسد في آخر عمره ودفن الميت خرجت الروح من الجسد فصار الموت، ولكن الروح لها اتصال بالجسد، فتنعم وتعذب وهي متصلة بالجسد، ومنفصلة عنه، وأمور البرزخ من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
وقد جاء في سورة المؤمنون ذكر الأطوار وكيفية خلق الإنسان أكثر مما جاء في هذا الحديث وفي آية الحج، وذلك في قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون:12 - 14] فذكر سبعة أحوال في هذه الآية من خلق آدم إلى أن خلق الإنسان على هيئته الكاملة التي قال الله عز وجل: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] وهنا كلمة: ((الْخَالِقِينَ)) لا يراد بها الموجدين؛ لأن الموجد هو الله وحده لا شريك له، وغيره لا يوصف بالإيجاد، ولكن المقصود بالخلق هنا: التقدير؛ لأن التقدير يمكن أن يكون من الإنسان والله تعالى يقدر وهو خير الخالقين، وأما الموجودون فلا أحد يوجد إلا الله عز وجل؛ ولهذا يأتي الخلق بمعنى التقدير، كما يقول الشاعر: ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري يخلق أي: يقدر، وهو الذي يرسم شيئاً ثم ينفذه وفقاً لما رسم، فهذا يقال له: خلق، لكن الإيجاد من العدم إلى الوجود هذا لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى؛ ولهذا فقوله: ((فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)) ذكر الخالقين والمقصود بههم المقدرون لا الموجودون، فهذه أطوار سبعة جاءت في هذه الآية: أولها: خلق آدم من تراب، ونهايتها كون الإنسان يكون على هذه الهيئة، وهي الخلق السوي الذي هو الخلق الآخر بعد مضي هذه الأطوار التي قبله.