هناك أمور أخرى تتعلق بالإيمان بالقدر، منها: أن أهل السنة والجماعة وسط في القدر بين الجبرية والقدرية، بين الجبرية الغلاة في الإثبات، وبين القدرية الذين نفوا القدر وجعلوا العباد خالقين لأفعالهم، فأهل السنة والجماعة توسطوا بين هؤلاء وهؤلاء، فالجبرية قالوا: إن الإنسان مجبور على أعماله وحركاته الاختيارية وغيرها، وأنه مثل الشجرة التي تحركها الرياح، ومثل الريشة التي تطير في الهواء، وإن الإنسان ليس له إرادة ولا مشيئة، بل هو مجبور على ما يحصل منه من أفعال.
ولم يفرقوا بين أفعال الإنسان الاختيارية وأفعاله الاضطرارية.
ويقابل هؤلاء القدرية الذين قالوا: إن الله عز وجل لم يقدَّر أعمال العباد على العباد؛ لأنه منزه عن الشر، وإنما العباد هم الذين يخلقون أفعالهم، وهم الذين يوجدون أعمالهم.
وأما أهل السنة فقالوا: إن أعمال العباد هي كسب لهم، فهي واقعة بمشيئتهم وإرادتهم، ومشيئتهم وإرادتهم تابعة لمشيئة الله وإرادته؛ لأنه لا يقع في الكون إلا مقدّر، وعلى هذا فهم وسط بين الذين غلوا في إثبات القدر حتى قالوا: إن الإنسان مجبور على أفعاله الاختيارية.
وبين الذين نفوا القدر وقالوا: إن الإنسان هو الذي يخلق فعله ويوجده.
فهم متوسطون بين هؤلاء وهؤلاء.
ويقول أهل السنة: إن أفعال العباد تنقسم إلى قسمين: أفعال اضطرارية، وأفعال اختيارية، فالأفعال الاضطرارية هي التي لا مشيئة ولا إرادة لهم فيها، فهي خارجة عن إرادتهم ومشيئتهم، وذلك مثل ارتعاش يد الإنسان، فهذا الارتعاش ليس من فعل الإنسان، وإنما هو صفة له، وهو يريد أن يفعل الأسباب التي تجعله يَسلَم من هذا الشيء، فإنه ليس من فعله، وليس بإرادته ومشيئته، فهذه الأفعال من الله وليس للإنسان كسب فيها.
أما الأفعال الاختيارية فهي الأكل والشرب والذهاب والإياب والبيع والشراء والصلاة والصيام، وغير ذلك من الأفعال التي هي كسب من العبد وتحصل بمشيئة العبد وإرادته، ولكنها لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته؛ لأن الله تعالى هو خالق العباد، وهو خالق أفعال العباد، وكل ما يقع في الوجود من حركة أو سكون فهو بمشيئة الله وإرادته وخلقه وإيجاده سبحانه وتعالى، وهذه الأفعال الاختيارية يثاب عليها العبد ويعاقب.
وبهذا يتبين أن هناك فرقاً بين الأفعال الاختيارية والأفعال الاضطرارية، ولهذا نجد النحاة يعرفون الفاعل فيقولون: هو اسم مرفوع يدل على من حصل منه الحدث أو اتصف به.
فهذا التفصيل في هذا التعريف يشمل القسمين من أفعال العباد: الاختيارية والاضطرارية، فالذي حصل منه الحدث هو أن يأكل ويشرب ويبيع ويشتري ويصلي ويصوم، فهذه أفعال اختيارية، وتحصل من الإنسان بمشيئته وإرادته، وأما من قام به الحدث واتصف به فهو مثل: (مرض فلان)، و (مات فلان)، و (ارتعش فلان)، فإن هذه ليست من أفعاله، وليست من كسبه؛ لأن الموت ليس بإرادته ومشيئته، وهو لا يريد الموت، وكذلك المرض، فهو لا يريده، فإذا قيل: مرض زيد فـ (مرض) فعل ماضي، و (زيد) فاعل، قيل له: (فاعل)؛ لأن الحدث قام به، وهو الموت، وكذلك المرض قام به، وكذلك الارتعاش قام به، وهو لم يفعله باختياره، ففرق بين الأفعال الاختيارية والأفعال الاضطرارية.
ويقول أهل السنة: إن أفعال العباد خلق الله وكسب من العباد؛ لأنها تقع بمشيئتهم وإرادتهم التابعة لمشيئة الله وإرادته، كما قال الله عز وجل: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]، فأثبت للعبد مشيئة، ثم أخبر بأن مشيئته لا تكون مستقلة عن مشيئة الله، بل هي تابعة لها، وما يوجد من العبد بمشيئته وإرادته فإنه يكون بمشيئة الله وإرادته؛ لأنه لا يمكن أن يشاء العبد شيئاً ويقع والله تعالى لم يشأ وقوعه، وقد عرفنا أن الكلمتين اللتين تشتملان على بيان عقيدة المسلمين وعقيدة أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر هما: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وقد جاء في بعض الأحاديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (والخير كله بيديك، والشر ليس إليك)، فليس معنى ذلك أن الشر ليس بمشيئة الله وإرادته وخلقه وإيجاده، بل كل شيء بمشيئة الله تعالى وإرادته وخلقه وإرادته، سواء أكان خيراً أم شراً، ولكن المقصود من ذلك أنه لا يخلق شراً خالياً من حكمة وفائدة، بل كل ما يخلقه الله من الشرور فإن من ورائه حكمة عظيمة.
فليس المراد أن هذه الأفعال ليست من الله، أو أنها خارجة عن مشيئة الله، وأن العباد هم الذين يوجدونها، ولم يقدرها الله تعالى، بل الله خالق كل شيء، كما قال الله عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، فيدخل في ذلك كل شيء مخلوق، وكذلك قول الله عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، أي: خلقكم وخلق أعمالكم.
فهو خالق الذوات، وخالق الصفات، وخالق الأفعال، أي أنه خالق العباد وخالق أفعالهم.