يظهر من خلال ما ذكرته آنفاً أن أهل السنة متوسطون بين الجبرية وبين القدرية، وأنهم يثبتون لله مشيئة وإرادة، ويثبتون للعبد مشيئة وإرادة، وأن مشيئة العبد وإرادته تابعة لمشيئة الله تعالى وإرادته وهي: هل الإنسان مخير أو مسير؟ والجواب أنه لا يصلح أن نجيب بواحد من المسئول عنهما، بل الجواب شيء ثالث غير الاثنين، فلا يقال: هو مخيَّر مطلقاً ولا مسيَّر مطلقاً، بل يفصل في ذلك، فهو مسيَّر ومخيَّر، مخير باعتبار أن الله تعالى جعل له عقلاً وتمييزاً، وبيّن له طريق الخير من طريق الشر، وأن هذا الطريق يوصله إلى الجنة وهذا الطريق يوصله إلى النار، كما قال الله عز وجل: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] أي: بيّنّا له طريق الخير وطريق الشر، وعنده من العقل ما يميّز ويعرف به ما ينفع وما يضر، فهو يختار ما يريد بمشيئته وإرادته، وبذلك يستحق الجزاء من ثواب أو عقاب، ولكن هذا الذي يحصل منه لا يكون خارجاً عن مشيئة الله وإرادته، بل هو تابع لمشيئة الله وإرادته.
فالعبد مخيّر باعتبار أن له مشيئة وإرادة وعقلاً وتمييزاً، وأنه قد بُيَّن له طريق الخير ومآله، وطريق الشر ومآله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لما سألوه: فيم العمل؟ قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
ولذلك يثاب العبد ويعاقب، فتقام عليه الحدود ويعزر بناءً على ما يحصل منه من الوقوع في أمور لا يجوز له أن يقع فيها.
وهو مسيَّر باعتبار أنه لا يقع منه شيء خارج عن مشيئة الله وإرادته، بل لا يحصل منه شيء إلّا وقد قدّره الله وقضاه؛ لأنه لا يقع في الكون إلا مقدَّر، ولا يكون في الكون إلا ما سبق به قضاء الله وقدره.
ولهذا فالجواب عن سؤالهم: هل الإنسان مخير أو مسير لا يكون بالإطلاق على أنه مخيّر أو مسيّر، وإنما يقال: هو مخير ومسيّر، مخير باعتبار، ومسير باعتبار آخر، فهذا هو الجواب السديد والسليم.
ويشبه هذا الجواب في عدم تعيين واحد من شيئين مسئول عنهما وأنه يُجاب بالجمع بينهما مسألة (هل الحدود زواجر أو جوابر) فلا يقال: الحدود زواجر فقط، ولا جوابر فقط، وإنما يقال: فهي جوابر وزواجر، فجوابر باعتبار أن الإنسان إذا فعل معصية عليها حد في الدنيا، وأقيم عليه الحد في الدنيا فإنه قد حصّل جزاءه على هذا الذنب في الدنيا، فلا يعذب به مرة أخرى؛ لأن النقص الذي حصل قد جُبر بالحد.
وقد ثبت من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أصاب شيئاً من هذه الحدود فأقيم عليه الحد كان كفارة له)، فقوله: (كان كفارة له) أي أنه جبر هذا النقص الذي حصل منه بهذا الحد الذي أقيم عليه وصار كفارة له.
وهي زواجر لمن أقيم عليه الحد حتى لا يعود إليه مرة أخرى، وزواجر لغيره حتى لا يقع فيما وقع فيه ذلك الإنسان الذي أقيم عليه الحد.
والذين يقولون: إنها زواجر وليست بجوابر هم الخوارج، فهم الذين يرون أن الإنسان إذا لم يتب ولم يقم عليه الحد فإنه يكون مخلداً في النار؛ لأن أصحاب الكبائر على مذهبهم مخلدون في النار، وأنه لا ينفع في ذلك إلا التوبة، وأن الإنسان إذا أقيم عليه الحد ولم يتب فإنه يخلد في النار.
وقد بيَّن حديث عبادة بن الصامت السابق أنها كفارة له، أي: كأن الذنب لم يكن، وإن لم يحصل منه توبة، فأما إذا حصل منه توبة فالتوبة تجب ما قبلها، لكن إذا أقيم الحد على إنسان ما فلا يعاقب عليه مرة أخرى في الدنيا ولا في الآخرة، فهذا الذنب الذي وقع منه قد كفَّر عنه بهذه العقوبة التي حصلت له في الدنيا، وهي إقامة الحد عليه.