قال ابن القيم: فإن قيل فهل مع ذلك كله دواء لهذا الداء العضال، أي: ما تقدم من ذكر المعاصي! ورُقْيةٍ لهذا السحر القتال؟ وما الحيلة في دفع هذا الخبال؟ وهل من طريق قاصدة إلى التوبة؟ وهل يمكن السكران بخمرة الهوى أن يفيق؟ وهل يملك العاشق قلبه والعشق قد وصل إلى سُوَيْدائه فمن تعلق قلبه وجوارحه فيما تقدم من المعاصي قيل: نعم، ما أنزل الله سبحانه وتعالى من داء إلا وأنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله، والكلام في دواء هذا الداء من طريقين: أحدهما: حسم مادته قبل وصولها. الثاني: قلعها قبل نزولها. وكلاهما يسير على من يسره الله، ومتعذر على من لم يُعِنْه الله؛ فإن أزمة الأمور بيديه.
وأما الطريق المانع من حصول هذا الداء فأمران: أحدهما: غض البصر كما تقدم، فإن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، وفي غض البصر عدة منافع: أحدها: أنه امتثال أوامر ربه - تبارك وتعالى - وما سعد من سعد في الدنيا إلا بامتثال أوامره، وما شقي من شقي في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره. الثانية: أن يمنع وصول السهم المسموم الذي لعلمه فيه هلاكه واشتداد قلبه. الثالثة: أنه يورث القلب أُنْساً بالله تعالى، وجمعه على الله، فإن إطلاق البصر يفرق القلب ويشتته، ويبعده من الله تعالى، وليس على القلب شيء أضر من إطلاق البصر، فإنه يوجب الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى. الرابعة: أنه يقوي القلب ويفرحه، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه. الخامسة: أنه يكسب القلب نوراً كما إن إطلاقه يكسبه ظلمة، ولهذا ذكر الله سبحانه وتعالى آية في سورة النور عقب الأمر بغض البصر فقال تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) . السادسة: أنه يورث فراسة صادقة يفرق بها بين الحق والباطل والصادق والكاذب. وكان شاه الكرماني يقول: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، واغتذى بالحلال، لم تخطئه فراسته. والله سبحانه وتعالى يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، ومن ترك لله شيئاً عوضه الله تعالى خيراً منه، فإذا غض بصره لله عن محارم الله عوضه الله تعالى بأن يطلق نور بصيرته عوضاً عن حبسه بصره لله سبحانه وتعالى ويفتح عليه باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة المضيئة التي إنما تنال ببصيرة القلب. وضد هذا ما وصف الله به اللوطية من العمه الذي هو ضد البصيرة فقال تعالى: (إنهم لفي سكرتهم يعمهون) . فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل والعمه الذي هو فساد البصر، فالتعلق بالصور يوجب فساد العقل، وعمه البصيرة ويسكر القلب، السابعة: أنه يورث القلب ثباتاً وشجاعة وقوة، فيجمع الله تعالى له بين سلطان البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقوة. الثامنة: أنه يفسد على الشيطان مدخله إلى القلب فإنه يدخل مع النظرة، وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهوى في المكان الخالي. التاسعة: أنه يفرغ القلب للتفكر في مصالحه والاشتغال بها وإطلاق البصر يشتت عليه ذلك ويحول بينها وبين ذلك، فتنفرط عليه أموره، ويقع في اتباع هواه، وفي الغفلة عن ذكر ربه تبارك وتعالى، قال الله تعالى: (ولا تُطِع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) . وإطلاق البصر يوجب هذه الأمور الثلاثة فحسب. العاشرة: أن بين العين والقلب منفذاً أو طريقا يوجب انتقال أحدهما بما يشتغل به عن الآخر، وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده، وإذا فسد النظر فسد القلب له كذلك في جانب الصلاح فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد، وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ، فلا يصلح لسكنى معرفة الله تعالى ومحبته والإنابة إليه والأنس به والسرور بقربه فيه، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك لهذه إشارة إلى بعض فوائد غض البصر تطلعك على ما ورائها.
الأمر الثاني من الدواء: اشتغال القلب بما يصده عن ذلك، ويحول بينه وبين الوقوع فيه: وهو إما خوفٌ مقلق، أو حبٌ مزعج، فمتى خلى القلب من خوف ما فواته أضر عليه من حصول هذا المحبوب، لم يجد بُداً من عشق الصور. وشرح هذا: أن النفس لا تترك محبوباً إلا لمحبوب أعلى منه، أو خشية مكروه حصوله أضر عليها من فوات هذا المحبوب، وهذا يحتاج صاحبه إلى أمرين، إن فقد أحدهما لم ينتفع لنفسه: