تفسير قوله تعالى: (وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى)

قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [طه:116]، أي: امتنع كبراً.

والخطايا أصولها ثلاثة: الكبر، والحسد، والحرص، فوالله ما عصى الله أحد إلا من باب واحدة من هذه الثلاث: الكبر، أو الحسد، أو الحرص، فالحرص باب للشهوات، والحسد باب للبغض، والكبر باب للبغي والشهوات، وباب لرد ما جاء الله جل وعلا به، فكل المعاصي تندرج في هذا الباب.

يقول ربنا: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا} [طه:116 - 117]، أي: إبليس {عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه:117]، ولم يقل: ولزوجتك، والأفصح أن يقال في المرأة: زوج، فيقال: زوجه، ولا يقال: زوجته، {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا} [طه:117]، آدم وحواء {مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، وقول الله: (من الجنة) إحدى الأدلة على أن المقصود بها جنة عدن؛ لأنه لا يستقر في الذهن هنا إلا جنة عدن، وقوله: (فتشقى) جاءت (فتشقى) بلفظ الإفراد، وهذا يدل على أن المرأة تبع للزوج، وأن الرجل هو المكلف بالسعي والكد.

ومعنى الآية: أن الجنة يا آدم كفيت أن تعمل فيها وتكد على أهلك، فخروجك منها سيدفعك الى الكد والسعي في طلب الرزق، وقوت أبنائك وأهلك، وتصبح تبحث عن الرزق كما يقال بعرق الجبين، وتذهب وتكد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حق جليبيب: (اللهم لا تجعل عيشهما كداً وصب عليهما الخير صباً).

والمقصود: لم يقل الله: فتشقيا؛ لأن الرجل هو المكلف بالكد.

قال الله جل وعلا: يرغب آدم في الجنة: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:118 - 119]، الجوع معروف وهو عدم الأكل، والعطش قرين له، يقال: فلان جائع وفلان عطشان، {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه:118]، بعد الجوع أتى بالعري، قال: {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا} [طه:119]، أي: لا تعطش، {وَلا تَضْحَى} [طه:119] ضحي الإنسان بمعنى: برز للشمس، ولهذا يقال لوقت ظهور الشمس واشتدادها: ضحى.

وهذا عند البلاغيين يسمى: تطابق تضاد، والمعنى أنهم يقولون: إن الله عدل عن قول: ألا تجوع فيها ولا تظمأ، فما قال: لا تجوع فيها ولا تظمأ، ولم يقل: تعرى مقابل الظهور للشمس، قالوا: لأن العري جوع الظاهر، وعدم الأكل جوع الباطل، وعدم الشرب حر الداخل، والظهور للشمس حر الظاهر، فهذا يسمى: تطابق تضاد.

وأهل اللغة إذا ذكروا هذا في القرآن يعرجون على بيتين للمتنبي، والمتنبي شاعر عباسي كان مشهوراً بالإغراق في الغرور والكبر عياذاً بالله، وهو القائل عن نفسه: أي عظيم أتقي وأي مكان أرتقي وكل ما خلق الله وما لم يخلق محتقر في همتي كشعرة في مفرقي ومن دون له سيرته -ولا أتحمل وزره- قال: إنه لم يسجد لله قط، فلا يعرف أن هذا الرجل كان يصلي؛ بل كانت به أنفة عجيبة، فكان ينشد شعره بين يدي سيف الدولة الحمداني وهو جالس، فودعه بقصيدة بعد أن اشتد عليه خصومه يقول فيها: واحر قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم ما لي أكتم حباً قد برى جسدي وتدعي حب سيف الدولة الأمم إن كان يجمعنا حب لغرته فليت أنا بقدر الحب نقتسم والآن هو يتكلم بين يدي الأمير، فبدلاً من أن ينصرف الكلام إلى مدح الأمير صرفه إلى نفسه فقال: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي أنا الثريا وذان الشيب والهرم هذه جملة أبيات قالها بين يديه ثم ترك حلب وبني حمدان، واتجه إلى مصر أيام حكم كافور الأخشيدي وكان كافور فطناً سياسياً، وهذه الفطنة جعلت كافوراً يقرب المتنبي بالقدر الذي يستفيد منه، وكان المتنبي يلح عليه ويطلب منه الولاية فلم يعطه، فلما سأل بعض خواص كافور عن سبب منعه الولاية للمتنبي قال: انظروا ماذا يراه في نفسه وهو شاعر، فكيف لو أعطي ولاية، ماذا سيفعل؟ سيطغى، والمتنبي هو القائل: ومن يجعل الضرغام بازاً لصيده تصيده الضرغام فيما تصيدا والعاقل لا يستخدم من هو أعظم منه؛ لأنه قد ينقلب عليك فيأكلك.

نعود إلى قضية التضاد في التطابق فنقول: وقف المتنبي ذات يوم في حرب تسمى: الحرب الحمراء، لـ سيف الدولة الحمداني، وانتصر فيها، فقال قصيدته الشهيرة التي مطلعها: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم حتى وصل إلى بيت يمدح ممدوحه فقال: وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم فقالوا: إن الحمداني استدرك على المتنبي هذا البيت، فأفهمه المتنبي بمراده الذي هو بين أيدنا الآن بما يسمى: تطابق التضاد، فجعل كل مصرع بيت بما يلائمه، وهذا مأخوذ من نسق القرآن، حتى يعلم أن القرآن في المرتبة الأعلى من الفصاحة، وما جاء أحد بأسلوب ولن يأتي أحد يرقى على أسلوب القرآن، فكلهم أصلاً مغترف من أسلوب القرآن سواء أنكر ذلك أو اعترف.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015