هذا ما تيسر حول هذه الآيات ذات المقاطع الواحدة، والآن نعيد الكرة في قراءتها تاريخياً بعد أن قرأناها تفسيرياً؛ لأن ما بعدها منفك عنها، نعود لقضية إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وهذا ينفعنا تاريخياً في أن نقول: إنك تسمع بأن الله جل وعلا قال في القرآن: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام:74]، وقد رجحت في اللقاء الماضي أن آزر لقب له، وأن اسمه تارخ، فلماذا اختلف العلماء؟ من حيث الصناعة العلمية يجب أن تعلم أنه في الغالب لا يمكن أن يكون هناك اختلاف إلا إذا وجد سبب قوي في ذلك، فمن سبق كان أتقى منا وأشد علماً وأعلم باللغة، فلا يمكن أن يكون حملهم على الأقوال التي ذكروها مجرد الهوى، فعندما لا يكون لك إلا خال واحد فإنه لا حاجة لأن تسميه إذا تحدثت عن خال، وأما إذا كان من يحيط بك يعلم أن لك عدة أخوال فلا بد أن تعينه باسمه؛ حتى تميزه عن باقي أخوالك.
فالذين قالوا: إن آزر ليس أباً لإبراهيم بل هو عم له قالوا: إن الله قال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام:74]، فقالوا: لو كان أباً لصلبه فلا حاجة لأن يسميه؛ لأنه ليس للإنسان إلا أب واحد، وأما الذين قالوا: إن اسمه آزر فقالوا: هذا صريح القرآن ولا انفكاك عنه، ومن أعظم الأدلة على أنه أبوه لصلبه أن الله ذكره في عدة مواضع ولم يقل: إنه عمه، فلو قال: إنه عمه لأصبح لقولهم حجة قوية، لكن كون الله جل وعلا ذكر أبا إبراهيم في مواطن عدة ولم يقل في واحدة منها: إنه عم دل ذلك على أنه أب له لصلبه.
وإبراهيم عليه السلام ترك إسماعيل -وهو الأكبر- وإسحاق، وترك العيص، ومن ذرية إسماعيل جاء نسب ممتد إلى عدنان، ومن عدنان إلى إبراهيم، فهناك آباء وأجداد قطعاً، لكن لا يوجد دليل ثبت على أسمائهم، أما من عدنان إلى هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم فهذا متفق عليه بين علماء الأنساب.
وأحياناً يمر معك في كتب التاريخ كلمة معد وكلمة عدنان، وتطلق أحياناً بمعنى واحد؛ لأنه ليس بين معد وعدنان أحد، فـ معد هو الابن المباشر لـ عدنان، فيقال: معدي ويقال: عدناني والمعنى واحد، قال روح بن زنباع: يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعدناني وهذا قاله روح بن زنباع عندما هرب من عبد الملك بن مروان، فأهدر دمه، فأصابه خوف، فقال: ما أدرك الناس من خوف ابن مروان أي: عبد الملك، فهو لما أصابه الخوف يقول: أنا إذا قابلت رجلاً من أهل اليمن قلت: أنا يمني، أي: قحطاني من العرب العاربة، فإذا لقيت رجلاً عدنانياً قلت: أنا عدناني، أي: من العرب المستعربة، وموضع الشاهد أنه قال: يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ وإن لقيت معدياً فعدناني وما قال فمعدي؛ لأن معداً هو ابن عدنان.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول الخطباء والكتاب في مدحه: والصلاة والسلام على سيد ولد عدنان، هذه اللفظة تنبه لها الشعراء، فأحياناً تكون المعلومة والمعنى مطروح من يستله ويصوغه هذا هو العقل، والخامة واحدة، لكن التعامل مع الخامة هو الذي يفرق الناس، ويفاضل بينهم، إن كانت في العلم كمعلومة أو كانت في اللفظ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أطبق الناس على أنه من ولد عدنان، فجاء ابن الرومي الشاعر العباسي فقال: إن الناس إذا انتسبوا فإنهم يفتخرون بآبائهم، فيقول فلان: أنا من قبيلة قريش، أو أنا هاشمي، أو أنا قرشي، أو أنا من بني سهل، كلٌ بحسبه، فقال: أما عدنان ففخرت بأن النبي صلى الله عليه وسلم منها، وهذا فخر والد بولد لا ولد بوالد، قال ابن الرومي في آخر البيت: كما علت برسول الله عدنان فالذي جعل مزية لعدنان على قحطان هو أن النبي صلى الله عليه وسلم منها، وهذا إن أطنبت في الفهم يريك أن رحمة الله جل وعلا مقسمة، فالعدنانيون ليسوا عرباً عاربة، فعوضوا بأن منهم محمداً صلى الله عليه وسلم، والقحطانيون ليس منهم النبي صلى الله عليه وسلم، وعوضوا بأنهم عرب عاربة، ومثل هذا قد تظنه ليس بكبير علم، لكن إذا كان متوقداً في ذهنك وأنت تسير في الحياة فإنه يجعلك تقل الطمع؛ لأنك تعلم أنه من الصعب أن تجمع الحسنيين.
أيضاً الله قال لنبيه: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} [الأنفال:7]، {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52]، فهذا يجعلك حتى في مسيرتك لا تحاول أن ترى أن كل شيء محال، تتخذ شيئاً جرماً وامض عليه، وتقلده، واجعل ما بقي فروعاً وحواشي، فلا تهدم ذلك الجرم الذي تريده، فمن يريد كل شيء لن يحصل على شيء.
فقد خرج الحسين بن علي ينشد الخلافة، والحسين إذا تكلم يقول: جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمي يقول عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم: (بضعة مني)، ففقه المسألة ابن عمر: فقال له وهو يودعه: إنك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يعطيكم الله الملك والنبوة، أي: لن يكون لك حظ فيها، ووقع كما قال ابن عمر، فحرم الحسين باستشهاده في العاشر من محرم من الوصول إلى الحكم، فيأتي الاستثناء، والاستثناء يكون في الخواتيم؛ لأن الأمور إذا تمت انتهت، فـ المهدي من ذرية نبينا صلى الله عليه وسلم، لكنه علامة من علامات الساعة يكون بها الخواتيم، وهذه سنة الله في خلقه، كم يفضل المشرق على المغرب في أن الشمس تشرق منه، فإذا جاءت الشمس من المغرب تقوم الساعة.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.