باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:10-15] .
قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ} [القلم:10] الحلاف: هو كثير الحلف، فهل يستفاد من الآية أن كثرة الحلف مذموم، أو لا يستفاد ذلك منها؟ من العلماء من قال: إن كثرة الحلف مذموم لهذه الآية الكريمة: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ} [القلم:10] ولقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يكثر من الأيمان، ولأن من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه، فإذا أكثر الشخص من الحلف أوشك أن يقع في الحلف على الحرام، أو الحلف المحرم، أو الحلف كاذباً، أو الوقوع فيما حلف عليه وينسى -لكثرة أيمانه- فلا يكفِّر وأيضاً: لأن الله سبحانه وتعالى وصف أهل النفاق أنهم يكثرون من الأيمان كي يصرفوا الناس عنهم، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة:16] أي: وقاية يتقون بها أقوال الناس فيهم وأحكام الناس فيهم، فهذه حجج من قالوا بكراهة ذلك بأن كثرة الحلف مذموم.
ومن أهل العلم من قال: إن كثرة الحلف لا بأس به إذا كان الشخص يحلف بحق، ويحلف على حق؛ وذلك لأن الحلف بالله فيه ذكر لله سبحانه، فالذي يقسم بالله يذكر الله أثناء القسم، قالوا: وقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41] .
قالوا: وأيضاً قد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم جملة أيمان دون أن يطلب منه القسم، ففي قصة العسيف -أي: الأجير- الذي كان مستأجراً عند رجل فزنى بامرأته: أتى أبوه وأتى زوج المرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كي يقضي بينهم، قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لأقضينّ بينكما بكتاب الله عز وجل) ، دون أن يطلب منه هذا القسم.
وأيضاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه أسامة بن زيد يستشفع في المرأة المخزومية التي سرقت، قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) ، دون أن يطلب منه أيضاً القسم.
فهذه حجج من قالوا بعدم الكراهية إذا كان الشخص محقاً في قسمه، وحجج الذين قالوا بكراهية الإكثار من القسم لغير حاجة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
لكن الاستدلال بقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم:10] على ذم الإكثار من الحلف لا يتم؛ لأنها لم تنفرد بالحكم، وإنما أردفت بصفات أخرى.
(مَهِين) المهين: هو الحقير، والكذَّاب أيضاً، فالحلاف المذموم في هذه الآية هو الحلاف المهين.