وقوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) الخصاصة: الحاجة الشديدة، وأمثلة هذا الإيثار سطِّرت بها كتب السنن، وجاءت نماذج منها في كتاب الله سبحانه وتعالى، فمما سطِّرت به كتب السنن ما أخرجه البخاري ومسلم: (أن ضيفاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل أزواجه: هل في بيت إحداكن طعام؟ فكلهن قلن: والله! يا رسول الله! ما عندنا إلا الأسودان التمر والماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ألا رجل يضيفه هذه الليلة؟) ، وفي هذا رفع للكلفة بين المسلمين، بل وقذف للمحبة بين المسلمين، فإذا جئت إلى أخيك وقلت له: حل بي ضيف وليس في بيتي طعام، فهل تستطيع إكرامه؟ فلا شك أن المودة تزداد والمحبة تتمكن، ففعلك هذا دليل على محبتك لأخيك، وعلى محبة أخيك لك.
(.
فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله!) وفي بعض الروايات: (أن هذا الرجل هو أبو طلحة، وزوجته هي أم سليم رضي الله تعالى عنهما، فأخذ الضيف فانطلق به إلى بيته، ولم يكن الطعام في البيت كافياً، فقال لامرأته: نوِّمي الصِّبْية، وذلك حتى لا يشاركوا الضيف في الطعام، فنوّمت الصِّبْية، وأطفأت المصباح، وقعدا يريان الضيف أنهما يأكلان وهما يتلمظان ويضربان بأسنانهما بعضها على بعض! حتى فرغ الضيف وشبع، ثم أصبح أبو طلحة فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد عجب الله عز وجل من صنيعكما البارحة! فأنزل الله عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] ) .
ومن ذلك ما فعله سعد بن الربيع مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما بعد أن آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهما عندما آخى بين المهاجرين والأنصار عند مقدم المهاجرين إلى المدينة، فقد قال سعد لـ عبد الرحمن: قد علمت -يا عبد الرحمن - أني من أكثر الأنصار بالمدينة مالاً، وأن لي زوجتين، فأشاطرك مالي، وانظر أي امرأتي شئت فأنزل لك عنها حتى تتزوجها! فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك! ولكن دلوني على السوق الحديث.
ولما فتح الله سبحانه وتعالى على نبيه الفتوحات، وأراد عليه الصلاة والسلام أن يُقطِع للأنصار البحرين، قالوا: لا -يا رسول الله- حتى تعطي إخواننا من المهاجرين مثل ذلك! فقوله سبحانه وتعالى: (وَيُؤْثِرُونَ) أي: يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.