وقوله تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، في هذه الآية ذم الشح، وهو نظير البخل، ومن العلماء من قال: إن الشح هو البخل مع حرص وطمع فيما أيدي الآخرين، فيبخل بما معه، ويحرص أيضاً على أخذ ما في أيدي الآخرين.
وقد روي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه أنه كان يطوف بالكعبة وله دعوة واحدة يدعو بها، يقول: اللهم! قني شح نفسي، اللهم! قني شح نفسي، اللهم! قني شح نفسي.
فقال له قائل: لم تدع بهذه الدعوة يا عبد الرحمن؟! قال: إنك إن وُقِيت شح نفسك فقد أفلحت كل الفلاح -أو كما قال رضي الله تعالى عنه-، وقد قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم! فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح! فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم) .
وأما ذم البخل فقد وردت جملة هائلة من الأحاديث تحذر منه، بل ومن الآيات كذلك، فقد قال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:37] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم! أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم! أعط ممسكاً تلفاً) .
وجاء بنو سلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (من سيدكم يا بني سلمة؟! قالوا: الجد بن قيس، على أنا نُبَخِّلهُ يا رسول الله! -أي: نصفه بالبخل-، قال: وأي داء أدوأ من البخل؟) ، ثم جعل سيدهم بدله عمرو بن الجموح، وكان عمرو على أصنامهم في الجاهلية، وكان يولم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج.
وثم جملة نصوص في ذم البخل ثابتة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
كما جاء ذم البخل بلهجات شديدة على ألسنة الشعراء، ومن ذلك قول أحدهم: رأيت الفضل متكئاً يناجي الخبز والسمكا فقطب حين أبصرني ونكس رأسه وبكى فلما أن حلفت له بأني صائم ضحكا والأبيات في هذا كثيرة لا تكاد تُحصَر.
وفي مقابل البخل الإيثار والكرم، وقد تحلى بالإيثار والكرم أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، وأهل الفضل والخير والصلاح، وهذا في الحقيقة منهم لأنهم أيقنوا بأن الخلف من الله سبحانه وتعالى، وأن ما يُفعل من خير فلن يُكفَر، وأن من عمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن عمل مثقال ذرة شراً يره، فدل هذا الكرم، ودل هذا الإيثار، ودل هذا الإنفاق على صدق الإيمان وحسن اليقين، والله أعلم.
والشح ليس بالمال فحسب، بل وبالمناصب والمستحقات من أي شيء، فقد قال الله سبحانه وتعالى في شأن الزوجين المتشاحنين: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] ، فقوله سبحانه: (وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ) أي: كل نفس تسرَّب إليها شحها؛ فنفس الرجل أتاها الشح، ونفس المرأة أتاها الشح، وذلك أن الآية نزلت في الرجل تكون عنده المرأة لا يحبها، ويريد فراقها، فتقول له: أمسكني لا تطلقني، وأنت في حلِّ من شأني، فيقبل منها ومع قبوله يحضر نفسه شحها، ونفس المرأة يحضرها شحها، فالرجل يمسكها بلا طلاق وهو يبغضها ويكرهها، فينفق عليها إذ هي زوجة ليست بمطلقة، فيقول في نفسه: لماذا أنفق عليها وأرهِق نفسي بالإنفاق؟ ويعدد على نفسه الأشياء التي يصنعها فيها، وهي الأخرى يحضرها الشح فتقول: أنا زوجة له، فلماذا لا ينفق علي؟ ولماذا لا يأتيني في كل ليلة كما يأتي الزوجة الأخرى؟ فكل نفس يحضرها الشح، فالشح عام، وغالباً ما يراد به الخصوص، كما هو الشأن في أكثر مواضع الكتاب العزيز، بل وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الآية الكريمة بيان لصرف الفيء في الأنصار أيضاً، فلهم نصيب منه.