تزل رتبته فِي ارْتِفَاع، وبدائعه نَار على بقاع حَتَّى استأثرت الحضرة بِهِ على مَا سواهَا، فأحرز فِيهَا الْغَايَة وحواها، وَنشر مطارف المعارف وَمَا طواها، فنفق للأدب سوقا، بسقت فروعها بسوقا، وقلد نحر الْعَصْر من عقوده درا منسوقا، ثمَّ تقدم خَطِيبًا بمسجدها الْجَامِع، فقرط بألفاظه الرائقة عاطلة المسامع، وأسال بمواعظه الْبَالِغَة دُرَر المدامع، وَهُوَ منجب الحلبة ومخرجها، وموقد الأذهان ومسرجها، خبا بوفاته للْعلم كوكبه الثاقب، ووريت بمواراته المفاخر والمناقب، وَله نظم تقطرت الْمجَالِس بجرياله وتعلقت المحاسن بأذياله، ونثر حسدت عُقُود الغانيات درره، وَغَارَتْ النُّجُوم الزهر لما اجتلت غرره،
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي إِسْحَق بن العَاصِي
سَابق حلبة للْعلم وَالدّين، والمستولي على قصب السَّبق فِي تِلْكَ الميادين، أَتَت طريف مِنْهُ بطرفة رائقة، وَأغْرب مِنْهُ هَذَا الْمغرب بروض تحسد الرياض حدايقه، ورد على الحضرة، فَقَامَتْ لَهُ على رجل، وأفعمت لَهُ من المبرة كل سجل، فاتخذها دَارا، وملأ هالاتها أبدارا، وانتظم لأوّل حُلُوله فِي حلبة الْكتاب والعهد قشيب، وُفُود الْوَقْت لم يرعه للمقت مشيب، وَالرّبع آهل، وَالدَّار فِي الرفد ناهل، فتميز بخصائصه الْحسنى، وتأهل للمحل الْأَسْنَى، وَفد للجملة بعد فقد صدرها، وأفول بدرها، وحلول شمسها فِي رمسها، فخلف استاذها ابْن الزبير خير خلف، وأصمت لِسَان من أنْشد فِيهِ " إِنَّمَا الدُّنْيَا أَبُو دلف " وَصعد الْمِنْبَر، فَجلت الخطوب خطبه، وهز مِنْهُ الْجذع، فتساقطت رطبه، فأبكى الْعُيُون الجامدة، وأثار العزايم الخامدة، وَأخذ بقلوب الدهماء فاستمالها وَبلغ مِنْهُم الْغَايَة الَّتِي أَرَادَ ونالها، وَحمل نَفسه باخرة على الْجُود، والإتيان بالحاضر الْمَوْجُود، فَكَانَ للْفُقَرَاء شمالا وللمعتقين مِثَالا وللعصر زينا وجمالا.