وإنما صار مكراً لأن الشهوات بعضها مطلق، وبعضها محظور عليه، فيمكر به في المطلق له، ليجره إلى المحظور عليه، لأن النفس بلهاء، فإذا مرت في الحلال، فتمكنت منه، سلست في الحرام، إذا لم يكن في القلب ما يقيد النفس عن الحرام، ويقويها حتى لا تسلس، وقوة القلب من النور، فإذا جاهد العبد، فمن جهاده أن يروض نفسه فيؤدبها.
وأدب النفس أن يمنعها الحلال، حتى لا تطمع في الحرام، وذلك أن النفس قد اعتادت لذة التكلم بالكلام، فإذا لم يلزمها الصمت فيما لابد منه، حتى تعتاد السكوت عن الكلام فيما لابد منه، فقد ماتت شهوة الكلام، فاستراح وقوى على الصدق، فلا يتكلم إلا بحق، فصار سكوته عبادة، وكلامه عبادة، لأنه إن نطق نطق بحق، وأن سكت سكت بحق، لأنه سكت مخافة الوبال. وكذلك شهوة النظر، فاعتاد النفس لذة رمي البصر حيثما وقع، من غير مبالاة، فإذا لم يلزمها الخفض عما لابد منه، وهو أن يكون خاشع الطرف، خافض النظر، اعتادت نفسه رمي البصر، لتدرك الأشياء، فإذا أرى الحرام لم يملك بصره، لأن شهوة النظر قد أخذت بعينه فملكته، فإذا ألزم عينه الغض عن النظر، ورمى بها إلى الأرض إذا مشى وقام وقعد، ماتت شهوة النظر إلى الأشياء، واعتادت غض البصر وحفظه، فإذا نظر نظر بحق، وإذا غض غض بحق، وصار نظره عبادة، وغضه عبادة. وكذلك شهوة السمع واليدين والرجلين والبطن والفرج. فالمجاهدة هاهنا إذا عزم العبد على مجاهدة النفس، ألزم كل جارحة من هذه الجوارح السبع الفطام عن عملها حلالاً كان أو حراماً، حتى تموت تلك الشهوة، لأن تلك الشهوة هي شهوة
واحدة، أحل له بعضها، وحرم عليه بعضها، بلوى من الله تعالى لعباده، وتدبيرا لهم، فما علم أنه يصلح لهم ويصلحون عليه أطلقه لهم؛ وما علم أنه يفسدهم وأنهم يفسدون عليه حظره عليهم، فالمطلق حلال، والمحظور حرام، وذلك مثل الكلام، فهي شهوة واحدة، بعضها حلال، وبعضها حرام، فلاستماع إلى الأصوات بعضه حلال، وبعضه حرام؛ والنظر إلى الأشياء بعضه حلال، وبعضه حرام؛ والأخذ والإعطاء بعضه حلال، وبعضه حرام؛ وكذلك المشي، والبطن والفرج كذلك، وإنما هي شهوة واحدة لكل جارحة،