نسيت، فذكروني"، نعم، بل حالة النسيان والسهو هنا في حقه - صلى الله عليه وسلم - لإفادة علم، وتقرير شرع، وهي زيادة له في التبليغ، وتمام عليه في النعمة، بعيدة عن سمات النقص، وأغراض الطعن، إذ البلاغ بالفعل أجلى منه بالقول، وأرفع للاحتمال.
ثم حكى عن طائفة أنهم قالوا: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسهو في الصلاة، ولا ينسى، لأن النسيان ذهول وغفلة وآفة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - منزّه عنها، والسهو شغلٌ، فكان يسهو في الصلاة، ويَشغله عن حركتها ما في الصلاة شغلًا بها، لا غفلة عنها.
ثم نقل القاضي عياض عن الإمام أبي المظفّر الإسفرايني وغيره أنهم قالوا: لا يجوز عليه - صلى الله عليه وسلم - السهو أصلًا، وحملوا جميع أحاديث السهو على أنه - صلى الله عليه وسلم - تعمّد ذلك ليقع البيان فيه بالفعل.
وهذا قول ضعيف، بل باطل لوجوه:
أحدها: أنه - صلى الله عليه وسلم - صرّح عن نفسه بالنسيان، فقال في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - المتفق عليه: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيتُ فذكّروني".
وثانيها: أن الأفعال العمدية تبطل الصلاة.
وثالثها: أن صورة الفعل العمدي والنسياني سواء، وإنما يتميز للغير بالإخبار بذلك.
ورابعها: أن البيان كاف بالقول، فلا ضرورة إلى تعمّد الفعل.
فالحاصل أن الراجح الذي ذهب إليه جمهور العلماء جواز السهو والنسيان على الأنبياء صلوات الله عليهم في الأفعال، كما دلت عليه هذه الأحاديث، ولكن شرط ذلك بالاتفاق أن لا يقرّ عليه فيما طريقه البلاغ، لما يؤدي ذلك إليه من فوات المقصود بالتشريع.
نعم اختلفوا في أنه هل يُشترط التنبيه على ذلك متصلًا بالفعل، أو لا يشترط ذلك، بل يجوز التراخي إلى أن تنقطع مدة التبليغ، وهو العمر؟ على قولين، ليس هذا موضع بسطهما.
والجمهور شرطوا أن يتصل التنبيه بالواقعة، وميل إمام الحرمين إلى جواز التأخير، ولا شكّ أن أحاديث السهو كلها قد وقع فيها البيان على الاتصال.
قال القاضي عياض -رحمه الله-: وأما ما ليس طريقه البلاغ، ولا بيان الأحكام من أفعاله - صلى الله عليه وسلم -، وما يختصّ به من أمور دينه، وأذكار قلبه، مما لم يفعله ليُتَّبَعَ فيه، فالأكثر من طبقات علماء الأمة على جواز السهو والغلط عليه في ذلك، لما كُلَّفَه من مقاسات الخلق، وسياسات الأمة، ولكن يكون ذلك على سبيل الندور، لا على سبيل التكرار.