ثم حكى عن طائفة أنهم ذهبوا إلى منع السهو والنسيان، والغفلات في هذا أيضًا جملة.
وذكر الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد -رحمه الله- أن بعض العلماء خالف القاضي عياضًا في تقسيمه الفعل إلى ما طريقه البلاغ، وما ليس طريقه البلاغ، وقال: إن أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله، وتقريراته كلها بلاغ، واستنتج بذلك العصمة في الكلِّ، بناءً على أن المعجزة تدلّ على العصمة فيما طريقه البلاغ، وهذه كلها بلاغ، فهذه كلها تتعلق بها العصمة، أعني القول والفعل والتقرير.
قال الشيخ تقي الدين: ولم يُصرّح في ذلك بالفرق بين عمد وسهو، فإن كان يقول: إن العمد والسهو سواءٌ في الأفعال، فهذا الحديث يردّ عليه. والله تعالى أعلم. انتهى كلام العلائي رحمه الله تعالى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تلخص مما ذكر أن الراجح هو ما عليه جمهور أهل العلم من جواز السهو والنسيان على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الأفعال، لوضوح الأدلة وصراحتها في ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الخامسة عشرة:
في الكلام على البحث الثاني، وهو ما يتعلق بأقواله - صلى الله عليه وسلم -.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وأما أقواله - صلى الله عليه وسلم -، فقامت الدلائل الواضحة بصحة المعجزة على صدقه، وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منها بخلاف ما هو به، لا قصدًا، وعمدًا، ولا سهوًا وغلطًا.
أما تعمّد الخُلْف في ذلك فمنتف، بدليل المعجزة القائمة مقام قول الله تعالى: صدقت، اتفاقًا بإطباق أهل الملّة إجماعًا.
وأما وقوعه على جهة الغلط فى ذلك فبهذه السبيل عند الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني، ومن قال بقوله، ومن جهة الإجماع فقط، وورود الشرع بانتفاء ذلك، عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا من مقتضى المعجزة نفسها عند القاضي أبي بكر الباقلّاني، ومن وافقه لاختلاف بينهم في مقتضى دليل المعجزة.
فلنعتمد على ما وقع عليه إجماع المسلمين أنه لا يجوز عليه خلف في القول في إبلاغ الشريعة، والإعلام بما أخبر عن ربه، وما أوحاه إليه من وحيه، لا على وجه العمد، ولا غير وجه العمد، ولا في حال الرضا والسخط، والصحة والمرض.
ثم احتجّ على ذلك بقول عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: يا رسول الله أكتب كل ما أسمع منك؟ قال: "نعم"، قال: في الرضا والغضب؟ قال: "نعم"، فإني لا