المسألة الثالثة عشرة:

تضمنت هذه الأحاديث أن الأفعال المنافية للعبادات التي تقتضي بُطلانها إذا وقعت سهوًا ونسيانًا لا تبطلها، فيؤخذ من ذلك مسألة أصولية، وهي أن المقتضي، وهو اللفظ الذي لابد فيه من أحد تقديرات ليستقيم الكلام، هل له عموم في جميعها أم لا؟، ويُمثّل ذلك بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فإن التحريم لا يضاف إلى الأعيان، فلا بُد من محذوف مقدر، يتم به الكلام.

فيَحتَمل أن يكون المقدّر: حرم عليكم أكل الميتة، وأن يكون بيع الميتة إلى غير ذلك، فهل يضمر جميع هذه المقدرات أم لا؟

الذي اختاره الإمام فخر الدين أنه لا يقدّر الكلِّ، للاستغناء عنه، وكثرة مخالفته للأصل، إذ الضرورة تندفع بواحد، ثم أورد على ذلك أنه ليس إضمار أحد الحكمين أولى من الآخر، فإما أن لا يضمر شيء أصلا، وهو باطل، أو يضمر الكلّ، وهو المطلوب.

وتوقف الآمدي في المسألة لتعارض المحذورين، أحدهما تكثير الإضمار إذا قيل بالتعميم، والآخر الإجمال إذا قيل بإضمار حكم مّا.

واختار ابن الحاجب عدم التعميم، ورأى أن التزام الإجمال أقرب من مخالفة الأصل بتكثير الإضمار، وهذا بعينه اختيار الكرخي في مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} أي تكون مجملة.

قال العلائي -رحمه الله-: والراجح من جهة الدليل القولُ بالتعميم، وأن التزام تكثير الإضمار أولى من التزام الإجمال، لأن المحذور فيه أقوى من الإضمار، لكثرة وجود الإضمار في اللغة، وقلّة المجمل، وللإجماع على التزام الإضمار في مواضع، والاختلاف في وجود المجمل، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله اليهود، حرّمت عليهم الشحوم، فباعوها، وأكلوا أثمانها". متفق عليه.

وهو يدلّ على إضمار جميع التصرفات المتعلقة بالشحوم في التحريم، وإلا لما لزمهم الذمّ ببيعها.

وفي كلام الشافعي - رضي الله عنه - ما يقتضي اختلاف قول في أن المقتضي له عموم أو لا؟، فقد حكى صاحب "الحاوي" عنه أنه قال في "الأم" في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] أن يقدر الآية: فمن كان منكم مريضًا، فتطيب، أو لبس، أو أخذ ظفره لأجل مرضه، أو به أذى من رأسه، فحلقه، ففدية من صيام. فقدّر جميع ما يضمر في الآية مما يصح الكلام بإضمار واحد منها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015