وأما إسحاق بن راهويه فكأنه اعتبر هذه المناسبة، فقال بالأحاديث كلها على نحو مما قاله الإمام أحمد، ثم فرق فيما عداها بين الزيادة والنقص، فقال كقول الإمام مالك، ويرُدُّ عليهما جميعًا أن اختصاص الإمام بالتحرّي والاجتهاد في حالة الشكّ، واختصاص المنفرد بالبناء على اليقين يحتاج إلى دليل،، فإن كان ذلك للجمع بين الحديثين، فلم لا قيل العكس؟

فإن أبدوا مناسبة ذلك بأن المنفرد ليس له من يذكّره، فيحتاج إلى البناء على اليقين بخلاف الإمام، فإنه يتحرى لأنه يرجع إلى قول المأمومين، قلنا: لا نسلّم أن الإمام يلزمه الرجوع إلى قول المأمومين ما لم يتذكر، بل لا فرق بين الإمام والمنفرد، وقد قال الخطابي: إن حقيقة التحرّي هو طلب أحرى الأمرين، وأولاهما بالصواب، وأحراهما ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - من البناء على اليقين، لما فيه من كمال الصلاة, وللاحتياط لها، قال: ويدلّ على أن التحرّي قد يكون بمعنى اليقين قوله تعالى: {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14].

قال الحافظ العلائي رحمه الله تعالى: فهذا ما يتعلق بهذه الأقوال الخمسة في موضع سجود السهو.

والقول السادس لعله أقربها إلى الصواب، وهو ردّ الأمر إلى التخيير، واستواء الأمرين، لثبوت الأحاديث فيها من كل جهة، وبُعْد الجمع بينها على وجه يعم جميعها، وبُعْد المناسبة الفارقة بين الزيادة والنقصان، ولا ينافي القولُ بهذا القول بالأولوية في بعض الصور، إما قبل السلام أو بعده حسب ما ثبت في الأحاديث، وقد اختار هذا القول الشيخ أبو حامد الإسفرايني من أصحاب الشافعي. والله سبحانه أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي اختاره الحافظ العلائي -رحمه الله-، وهو ردّ الأمر إلى التخيير فيما لا نص فيه هو الأرجح عندي.

وحاصله أن ما نُصّ فيه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد فيه قبل السلام فهو قبل السلام، وما كان فيه أنه سجد فيه بعد السلام فهو بعد السلام، وما ليس فيه نص فهو بالتخيير.

وقد اختار هذا القول العلامة الشوكاني -رحمه الله- في "نيل الأوطار" جـ 3 - صلى الله عليه وسلم -، 134 وعبارته هناك: وأحسن ما يقال في المقام: إنه يعمل على ما تقتضيه أقواله وأفعاله - صلى الله عليه وسلم - من السجود قبل السلام وبعده، فما كان من أسباب السجود مقيدًا بقبل السلام سجد له قبله، وما كان مقيّدًا ببعد السلام سجد له بعده، وما لم يرد تقييده بأحدهما كان مخيّرًا بين السجود قبل السلام وبعده من غير فرق بين الزيادة والنقص، لما أخرجه مسلم في "صحيحه" عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا زاد الرجل أو نقص، فليسجد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015