فدبغتموه، فانتفعتم به ... " الْحَدِيث.
[تنبيه]: إنما أهدى هَذَا الرجل الراوية لأنه لم يبلغه الناسخ، وكان متمسكا بالإباحة المتقدمة، فكان ذلك دليلاً عَلَى أن الحكم لا يرتفع بوجود الناسخ، كما يقوله بعض الأصوليين، بل ببلوغه، كما دل عليه هَذَا الْحَدِيث، وهو الصحيح؛ لأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لم يوبخه، بل بين له الحكم، ولأنه مخاطب بالعمل بالأول، بحيث لو تركه عصى بلا خلاف، وإن كَانَ الناسخ قد حصل فِي الوجود، وذلك كما وقع لأهل قباء، إذ كانوا يصلون إلى بيت المقدس، إلى أن أتاهم الآتي، فأخبرهم بالناسخ، فمالوا نحو الكعبة. أفاده فِي "الجامع لأحكام القرآن" 6/ 289 وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخمر لا يجوز تخليلها لأحد، ولو أجاز تخليلها، ما كَانَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليدع الرجل أن يفتح المزادة، حَتَّى يذهب ما فيها؛ لأن الخل مال، وَقَدْ نهى عن إضاعة المال، ولا يقول أحد فيمن أراق خمرا عَلَى مسلم، أنه أتلف له مالاً، وَقَدْ أراق عثمان بن أبي العاص خمرا ليتيم، واستؤذن -صلى الله عليه وسلم- فِي تخليلها، فَقَالَ: لا، ونهى عن ذلك، ذهب إلى هَذَا طائفة منْ العلماء، منْ أهل الْحَدِيث والرأي، وإليه مال سحنون بن سعيد. وَقَالَ آخرون: لا بأس بتخليل الخمر، ولا بأس بأكل ما تخلل منها بمعالجة آدمي، أو غيرها، وهو قول الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، والكوفيين. وَقَالَ أبو حنيفة: إن طُرح فيها المسك، والملح، فصارت مُرَبَّى، وتحولت عن حال الخمر جاز، وخالفه محمد بن الحسن فِي المربى، وَقَالَ: لا تعالج الخمر بغير تحويلها إلى الخل وحده.
قَالَ أبو عمر بن عبد البر: احتج العراقيون فِي تخليل الخمر بأبي الدرداء، وهو ما يُروَى عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء منْ وجه ليس بالقوي، أنه كَانَ يأكل المربى منه، ويقول: دبغته الشمس والملح، وخالفه عمر بن الخطاب، وعثمان بن أبي العاص فِي تخليل الخمر، وليس فِي رأي أحد حجة مع السنة، وبالله التوفيق.
وَقَدْ يحتمل أن يكون المنع منْ تخليلها، كَانَ فِي بدء الإِسلام عند نزول تحريمها؛ لئلا يستدام حبسها لقرب العهد بشربها، إرادة لقطع العادة فِي ذلك، وإذا كَانَ كذلك لم يكن فِي النهي عن تخليلها حينئذ، والأمر بإراقتها ما يمنع منْ أكلها إذا خللت. ورَوَى أشهب عن مالك قَالَ: إذا خلل النصراني خمرا فلا بأس بأكله، وكذلك إن خللَّها مسلم، واستغفر الله، وهذه الرواية ذكرها ابن عبد الحكم فِي كتابه، والصحيح ما قاله مالك فِي رواية ابن القاسم، وابن وهب أنه لا يحل لمسلم أن يعالج الخمر حَتَّى يجعلها خلا،