فيها، إذ الغالب منْ أحوالهم أنهم لم يكن لهم كُنُف فِي بيوتهم، وقالت عائشة رضي الله عنها: إنهم كانوا يتقذرون منْ اتخاذ الكنف فِي البيوت، ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة، ويلزم منه تأخير ما وجب عَلَى الفور، وأيضاً فإنه يمكن التحرز منها، فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر منْ الكثرة بحيث تصير نهرًا يعم الطريق كلها، بل إنما جرت فِي مواضع يسيرة، يمكن التحرز عنها، وهذا مع ما يحصل فِي ذلك منْ فائدة شهرة إراقتها فِي طرق المدينة؛ ليشيع العمل عَلَى مقتضى تحريمها منْ إتلافها، وأنه لا يُنتفع بها، وتتابع النَّاس، وتوافقوا عَلَى ذلك. والله أعلم.
[فإن قيل]: التنجيس حكم شرعي، ولا نص فيه، ولا يلزم منْ كون الشيء محرما أن يكون نجسا، فكم منْ محرم فِي الشرع ليس بنجس. [قلنا]: قوله تعالى: {رِجْسٌ} يدلّ عَلَى نجاستها، فإن الرجس فِي اللسان النجاسة، ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم إلا حَتَّى نجد فيه نصا، لتعطلت الشريعة، فإن النصوص فيها قليلة، فأي نص يوجد عَلَى تنجيس البول، والعذرة، والدم والميتة، وغير ذلك، وإنما هي الظواهر، والعمومات والأقيسة. انتهى كلام القرطبيّ.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فيما قاله القرطبيّ نظر لا يخفى، إذ استدلاله بقوله: {رِجْسٌ} غير صحيح؛ لأنه يلزمه أن تكون الأنصاب، والأزلام أيضاً نجسًا, ولا قائل به، وأيضاً قوله: "لا يوجد نصّ عَلَى تنجيس البول الخ"، غير صحيح، فقد ثبتت نجاسة البول، والغائط، والميتة بنصوص كثيرة، كحديث:"استنزهوا منْ البول"، وحديث: "أيما إهاب دُبغ، فقد طهر"، وأمره -صلى الله عليه وسلم- المستحاضة بغسل الدم، وغير ذلك، مما لا يخفى عَلَى منْ يتتبع النصوص.
والحاصل أن القول بنجاسة الخمر محل نظر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قوله تعالى: {فَاجْتَبوُهُ} يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا يُنتفَع معه بوجه منْ الوجوه، لا بشرب، ولا بيع، ولا تخليل، ولا مداواة، ولا غير ذلك، وعلى هَذَا تدلّ الأحاديث الواردة فِي الباب، رَوَى مسلم، عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أن رجلاً أهدى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- راوية خمر، فَقَالَ له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هل علمت أن الله حرمها؟ " قَالَ: لا، قَالَ: فسار رجلاً، فَقَالَ له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"بم ساررته؟ " قَالَ: أمرته ببيعها، فَقَالَ: "إن الذي حرم شربها، حرم بيعها"، قَالَ: ففتح المزادة حَتَّى ذهب ما فيها، فهذا حديث يدلّ عَلَى ما ذكرناه، إذ لو كَانَ فيها منفعة منْ المنافع الجائزة، لبينه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما قَالَ فِي الشاة الميتة: "هلا أخذتم إهابها،