البادية. يعني أن الخروج إلى القرى أهون منْ الخروج إلى البوادي. وكان بعضهم يمتنع منْ ذلك لشهود الجماعة. فروى أبو نُعيم بإسناده، عن أبى حرملة، قَالَ: اشتكى سعيد ابن المسيّب عينه، فقيل له: يا أبا محمد لو خرجت إلى العقيق، فنظرت إلى الخضرة، ووجدت ريح البرّيّة، لنفع ذلك بصرك، فَقَالَ سعيد: وكيف أصنع بشهود العشاء والعتمة؟.
وما ذكره الأثرم منْ التفريق بين قصر المدّة وطولها حسنٌ، لكنه حدّ القليل باليوم، ونحوه، وفيه نظر.
وفي "مراسيل أبي داود" منْ رواية معمر، عن موسى بن شيبة، قَالَ: قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "منْ بدا أكثر منْ شهرين، فهي أعرابيّة". وروى حُميد بن زنجويه بإسناده، عن خلف بن خليفة، عن أبى هاشم، قَالَ: بلغني أن منْ نزل السواد أربعين ليلةً كُتب عليه الجفا. وعن معاوية بن قُرّة، قَالَ: البداوة شهران، فما زاد فهو تعرُّب. انتهى ما كتبه الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي "شرح البخاريّ" 1/ 109 - 119. وهو بحث نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي الاجتماع والعزلة، أيهما أفضل؟:
قد تقدّم البحث مستوفًى فيما كتبه ابن رَجَب رحمه الله تعالى، ولكن رأيت تلخيصه فِي مسألة مستقلّة حَتَّى تكون فوائد المسألة سهلة الْمَنَال:
قَالَ فِي "الفتح": ما حاصله: اختلف السلف فِي ذلك، فَقَالَ الجمهور: الاختلاط أولى؛ لما فيه منْ اكتساب الفوائد الدينية، للقيام بشعائر الإسلام، وتكثير سواد المسلمين، وإيصال أنواع الخير إليهم، منْ إعانة، وإغاثة، وعيادة، وغير ذلك.
وَقَالَ قوم: العزلة أولى؛ لتحقق السلامة، بشرط معرفة ما يتعين. قَالَ النوويّ: المختار تفضيل المخالطة، لمن لا يغلب عَلَى ظنه، أنه يقع فِي معصية، فإن أشكل الأمر، فالعزلة أولى. وَقَالَ غيره: يختلف باختلاف الأشخاص، فمنهم: منْ يتحتم عليه أحد الأمرين، ومنهم منْ يترجح، وليس الكلام فيه، بل إذا تساويا، فيختلف باختلاف الأحوال، فإن تعارضا اختلف باختلاف الأوقات، فمن يتحتم عليه المخالطة، وهو منْ كانت له قدرة عَلَى إزالة المنكر، فيجب عليه، إما عينا، وإما كفاية، بحسب الحال والإمكان، وممن يترجح منْ يغلب عَلَى ظنه، أنه يسَلَم فِي نفسه، إذا قام فِي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وممن يستوي منْ يَأمن عَلَى نفسه، ولكنه يتحقق أنه لا يطاع، وهذا حيث لا يكون هناك فتنة عامة، فإن وقعت الفتنة، ترجحت العزلة؛ لما ينشأ فيها غالبا منْ الوقوع فِي المحذور، وَقَدْ تقع العقوبة بأصحاب الفتنة، فتعم منْ ليس