الفتن، لكن لما جعل الغنم خير مال المسلم فِي هذه الحال، دلّ عَلَى أن هَذَا الفعل منْ خصال الإسلام، والإسلام هو الدين. وأصرح منْ دلالة هَذَا الْحَدِيث الذي خرّجه هنا الْحَدِيث الذي خرّجه فِي أول "الجهاد" منْ رواية الزهريّ، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد -رضي الله عنه-، قَالَ: قيل: يا رسول الله، أي النَّاس أفضل؟ فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مؤمنٌ يُجاهد فِي سبيل الله بنفسه وماله"، قالوا: ثمّ منْ؟ قَالَ: "مؤمن فِي شِعب منْ الشعاب، يتقي الله، ويدَعُ النَّاس منْ شره"، وليس فِي هَذَا الْحَدِيث ذكر الفتن. وأخرجه أبو داود، وعنده: سُئل النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: أيّ المؤمنين أكمل إيمانًا؟ ... فذكره. وهذا فيه دلالة عَلَى أن الاعتزال عن الشرّ منْ الإيمان. وفي "المسند" 6/ 419، و"جامع الترمذيّ":
2177 - واللفظ لأحمد، عن طاوس، عن أم مالك البهزيّة، قالت: قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خير النَّاس فِي الفتنة رجلٌ معتزلٌ فِي ماله، يعبد ربّه، ويؤدّي حقّه، ورجلٌ آخذ بعِنان فرسه فِي سبيل الله". ورُوي عن طاوس، عن ابن عبّاس، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. أخرجه الحاكم 4/ 446. وروي عن طاوس مرسلاً. وأخرج الحاكم أيضًا 2/ 93 منْ حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، مرفوعًا: "أظلّتكم فتنٌ كقطع الليل المظلم، أنجى النَّاس منها: صاحب شاهقة يأكل منْ رِسْل غنمها، ورجل منْ وراء الدروب، آخذ بعنان فرسه، يأكل منْ فيْىءِ سيفه". وَقَدْ وقفه بعضهم.
فهذه الروايات المقيّدة بالفتن تقضي عَلَى الروايات المطلقة. انتهى كلام ابن رَجَب فِي "شرح البخاريّ" 1/ 105 - 107.
(ومنها): الاحتراز عن الفتن، وَقَدْ خرج جماعة منْ السلف -رضي الله عنهم- عن أوطانهم، وتفرّقوا فِي البلدان خوفا منْ الفتنة، وَقَدْ خرج سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- إلى الربذة فِي فتنة عثمان -رضي الله عنه-.
(ومنها): أن هَذَا الخبر دالّ عَلَى فضيلة العزلة لمن خاف عَلَى دينه، وَقَدْ اختُلف فيه، وسيأتي بيان ذلك فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (ومنها): أنه يدلّ عَلَى فضيلة الغنم، واقتنائها. (ومنها): أن فيه علماً منْ أعلام النبوّة، حيث أخبر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بما يقع فِي آخر الزمان منْ الفتن، فوقع كما أخبر به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قد كتب الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي "شرحه للبخاريّ" بحثا نفسيا يتعلّق فِي العزلة، أحببت إيراده هنا لنفاسته، قَالَ رحمه الله تعالى:
وَقَدْ اعتزل جماعة منْ الصحابة -رضي الله عنهم- فِي الفتن فِي البوادي. وَقَالَ الإمام أحمد: إذا كانت الفتنة، فلا بأس أن يعتزل الرجل حيث شاء، فأما إذا لم يكن فتنة، فالأمصار