خير. فأما سُكنى البوادي عَلَى وجه العبادة، وطلب السياحة، والعزلة، فمنهيّ عنه، كما فِي الترمذيّ -165، والحاكم 2/ 68 عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قَالَ: مرّ رجل منْ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشِعْب فيه عُيينةٌ، منْ ماء عذبةٍ، فأعجبته لطيبها، فَقَالَ: لو اعتزلت النَّاس، فأقمت فِي هَذَا الشعب، ولن أفعل حَتَّى أستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: "لا تفعل، فإن مقام أحدكم فِي سبيل الله، أفضل منْ صلاته فِي بيته سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، ويدخلكم الجنة، اغزو فِي سبيل الله، منْ قاتل فِي سبيل الله فُوَاق ناقة، وجبت له الجنة". قَالَ أبو عيسى: هَذَا حديث حسن.

وأخرج الإمام أحمد 5/ 266 نحوه منْ حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وفيه: أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لم أُبعث باليهوديّة، ولا بالنصرانيّة، ولكنّي بُعثت بالحنيفيّة السمحة .... "وذكر باقيه بمعناه. وأخرج أبو داود 2486 - منْ حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- أن رجلاً قَالَ: يا رسول الله، ايذن لي بالسياحة، فَقَالَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "إن سياحة أمتي الجهاد فِي سبيل الله". وفي "المسند" 3/ 82 عن أبي سعيد -رضي الله عنه- عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "عليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام". وفي مراسيل طاوس، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لا رهبانية فِي الإسلام، ولا سياحة". وفي المعنى مراسيل أُخر متعدّدة.

قَالَ الإمام أحمد: ليست السياحة منْ الإسلام فِي شيء، ولا منْ فعل النبيّين، ولا الصالحين. والسياحة عَلَى هَذَا الوجه قد فعلها طوائف ممن يُنسب إلى عبادة، واجتهاد بغير علم، ومنهم منْ رجع لَمّا عرف ذلك. وَقَدْ كَانَ فِي زمن ابن مسعود -رضي الله عنه- جماعة منْ المتعبّدين خرجوا إلى ظاهر الكوفة، وبنوا مسجدًا يتعبّدون فيه، منهم عمرو بن عُتبة، ومُفضّل العجليّ، فخرج إليهم ابن مسعود -رضي الله عنه-، وردّهم إلى الكوفة، وهدم مسجدهم، وَقَالَ: إما أن تكونوا أهدى منْ أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، أو تكونوا متسمكين بذَنَب الضلالة. وإسناده صحيح عن الشعبيّ أنه حكى ذلك. وَقَدْ رأى عبد الله بن غالب الحدانيّ رجلاً فِي فلاة، يأتيه رزقه، لا يدري منْ أين يأتيه، فَقَالَ له: إن هذه الأمة لم تؤمر بهذا، إنما أمرت بالجمعة، والجماعة، وعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، فقبل منه، وانتقل منْ ساعته إلى قرية فيها هَذَا كلّه. أخرج حكايته ابن أبي الدنيا. ورُوي نحو هذه الحكاية أيضًا عن أبي غالب، صاحب أبي أمامة الباهليّ -رضي الله عنه-. أخرجها حُميد بن زنجويه.

وكذلك سُكنى البوادي لتنمية المواشي، والأموال -كما جرى لثعلبة فِي ماله- فمذموم أيضًا. وفي "سنن ابن ماجه" 1127 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، مرفوعًا: "ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصَّبَّةَ منْ الغنم، عَلَى رأس ميل، أو ميلين، فيتعذّر عليه الكلأ،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015