أطماع النَّاس فيه.

[فإن قيل]: كيف يُجمع بين هَذَا الْحَدِيث الدالّ عَلَى اختيار العزلة، وبين ما ندب إليه الشارع منْ الاختلاط بالناس لإقامة الجماعة، والجمعة، والعيد، ونحو ذلك؟. [أجيب]: بأن ما ندب إليه الشارع عند أمن الفتنة، وعدم الوقوع فِي المعاصي، وأما اتباع الشعف، ومواضع القطر يكون فِي أيام الفتن. أفاده العينيّ فِي "عمدته" 1/ 186.

وَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: فقوله -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك" تقريب للفتنة، وَقَدْ وقع ذلك فِي زمن عثمان -رضي الله عنه- كما أخبر به -صلى الله عليه وسلم-، وهذا منْ جملة أعلام نبوّته -صلى الله عليه وسلم-. وإنما كانت الغنم خير مال المسلم حيئذ؛ لأن المعتزل عن النَّاس بالغنم، يأكل منْ لحومها، ونتاجها، ويشرب منْ ألبانها، ويستمتع بأصوافها باللبس وغيره، وهي ترعى الكلأ فِي الجبال، وترد المياه، وهذه المنافع، والمرافق لا توجد فِي غير الغنم، ولهذا قَالَ: "يتبع بها شَعَف الجبال"، وهي رءوسها، وأعاليها، فإنها تعصم منْ لجأ إليها منْ عدوّ. و"مواقع القطر" لأنه يجد فيها الكلأ، فيشرب منها، ويسقي غنمه، وترعى غنمه منْ الكلإ. قَالَ: وفي هَذَا دلالةٌ عَلَى أن منْ خرج منْ الأمصار، فإنه يخرج معه بزاد، وما يُقتات منه.

وقوله: "يفرّ بدينه منْ الفتن": يعني يهرب خشية عَلَى دينه منْ الوقوع فِي الفتن، فإن منْ خالط الفتن، وأهل القتال عَلَى الملك، لم يسلم دينه منْ الإثم، إما بقتل معصوم، أو أخذ مال معصوم، أو المساعدة عَلَى ذلك بقول، ونحوه، وكذلك لو غلب عَلَى النَّاس منْ يدعوهم إلى الدخول فِي كفر، أو معصية حسُن الفرار منه.

وَقَدْ مدح الله تعالى منْ فرّ بدينه؛ خشية الفتنة عليه، فَقَالَ -حكاية عن أصحاب الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} الآية [الكهف: 16].

ورَوَى عروة، عن كرز الخزاعيّ -رضي الله عنه- قَالَ: سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعرابيّ: هل لهذا الإسلام منْ منتهى؟ قَالَ: "منْ يُرد الله به خيرًا منْ عرب، أو عجم أدخله عليه"، قَالَ: ثم ماذا؟ قَالَ: "تقع فِتَنٌ كالظُّلَل"، قَالَ: كلّا يا نبيّ الله، قَالَ: "بلى" والذي نفسي بيده، لتعودنّ فيها أَسَاوِدَ صُبّا، يضرب بعضكم رقاب بعض، وخير النَّاس يومئذ رجلٌ يتّقي ربّه، ويَدَعُ النَّاس منْ شرّه". رواه أحمد فِي "مسنده" 3/ 477 وابن حبّان فِي "صحيحه" 13/ 287.

الأساود جمع أسود، وهو أخبث الحيّان، وأعظمها. والصُّبّ جمع صَبُوب عَلَى أن أصله صُبُبٌ كرسول ورُسُل، ثم خفّف كرُسْل، وذلك أن الأسود إذا أراد أن ينهش ارتفع، ثم انصبّ عَلَى الملدوغ، ويُروى "صُبّى" عَلَى وزن "حُبْلى".

وفي "الصحيحين" منْ طريق بسر بن عبيد الله الحضرميّ، أنه سمع أبا إدريس

طور بواسطة نورين ميديا © 2015