وقوله: "مه": هي كلمة مبنيّة عَلَى السكون، وهي اسم فعل، بمعنى اكفف، وهذا الزجر يحتمل أن يكون لعائشة، زجرًا عن مدح المرأة بما ذَكَرت، ويحتمل أن يكون للمرأة زجرًا عن فعلها هَذَا. أفاده فِي "الفتح".
وَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: وقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "مه" زجرٌ لعائشة عن قولها عن هذه المرأة فِي كثرة صلاتها، وأنها لا تنام الليل، وأمرٌ لها بالكفّ عمّا قالته فِي حقها، فيحتمل أن ذلك كراهية للمدح فِي وجهها، حيث كانت المرأة حاضرةً. ويحتمل -وهو الأظهر، وعليه يدلّ سياق الْحَدِيث- أن النهي إنما هو لمدحها بعمل ليس بممدوح فِي الشرع. وعلى هَذَا فكثيرا ما يُذكر فِي مناقب العبّاد منْ الاجتهاد المخالف للشرع يُنهَى عن ذكره عَلَى جهة التمدّح به، والثناء به عَلَى فاعله، وَقَدْ سبق شرح هَذَا المعنى فِي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الدين يُسر"، فإن المراد بهذا الْحَدِيث الاقتصاد فِي العمل، والأخذ منه بما يتمكن صاحبه منْ المداومة عليه، وأن أحبّ العمل إلى الله تعالى ما دام صاحبه عليه، وإن قلّ. وَقَدْ رُوي ذلك فِي حديث آخر، وكذلك كَانَ حال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ عمله ديمة، وكان إذا عمل عملاً أثبته. وَقَدْ كَانَ ينهى عن قطع العمل وتركه، كما قَالَ لعبد الله بن عمرو: "لا تكن مثل فلان، كَانَ يقوم الليل، فترك قيام الليل". متّفقٌ عليه. انتهى.
وقوله: فوالله لا يملّ الله حَتَّى تملّوا": قَالَ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: الملل، والسآمة للعمل يوجب قطعه وتركه، فقطع الله عنه ثواب ذلك العمل، فإن العبد إنما يُجازى بعمله، فمن ترك عمله انقطع عنه ثوابه وأجره، إذا كَانَ قطعه لغير عذر، منْ مرض، أو سفر، أو هَرَم، كما قَالَ الحسن: إن دُور الجنة تبنيها الملائكة بالذكر، فإذا فتر العبد انقطع الملك عن البناء، فتقول له الملائكة: ما شأنك يا فلان؟ فيقول: إن صاحبي فَتَر، قَالَ الحسن: أمدّوهم -رحمكم الله- بالنفقة. وأيضًا فإن دوام العمل، وإيصاله ربّما حصل للعبد به فِي عمده الماضي ما لا يحصل له فيه عند قطعه، فإن الله تعالى يحبّ مواصلة العمل، ومداومته، ويجزي عَلَى دوامه ما لا يجزي عَلَى المنقطع منه. وَقَدْ صحّ هَذَا المعنى فِي الدعاء، وأن العبد يُستجاب له ما لم يعجَل، فيقول: قد دعوت، فلم يُستجب لي، فيدع الدعاءَ، فدلّ هَذَا عَلَى أن العبد إذا أدام الدعاء، وألحّ فيه أجيب، وإن قطعه، واستحسر، مُنع إجابته.
وسُمّي هَذَا المنع منْ الله تعالى مللاً، وسآمةً، مقابلةً للعبد عَلَى ملله، وسآمته، كما قَالَ تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} الآية [التوبة: 67]، فسُمّي إهمالهم، وتركهم نسيانًا، مقابلةً لنسيانهم له. هَذَا أظهر ما قيل فِي هَذَا. ويشهد له أنه قد رُوي منْ حديث عائشة