فعل هَذَا بخلاف الأول، فإن الإنسان قد يفعل ذلك تخلّقا، ولا يكون فِي خلقه سماحة، وصبرٌ، وكذلك قَالَ: "أفضل المسلمين منْ سلم المسلمون منْ لسانه ويده"، وَقَالَ: "أفضل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا"، ومعلومٌ أن هَذَا يتضمّن الأول، فمن كَانَ حسن الخلق فعل ذلك. قيل للحسن البصريّ: ما حسن الخلق؟ قَالَ: بذل الندى، وكفّ الأذى، وطلاقة الوجه، فكفّ الأذى جزء منْ حسن الخلق، وستأتي الأحاديث الصحيحة بأنه جعل الأعمال الظاهرة منْ الإيمان، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"، وقوله لوفد عبد القيس: "آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟: شهادة أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم".
ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيمانًا بالله بدون إيمان القلب؛ لِمَا قد أخبر فِي غير موضع أنه لابد منْ إيمان القلب، فعُلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان. وفي "المسند" عن أنس -رضي الله عنه- عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قَالَ: "الإسلام علانية، والإيمان فِي القلب" (?)، وَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إن فِي الجسد مضغةً إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، ألا وهي القلب"، فمن صلح قلبه صلح جسده قطعًا، بخلاف العكس. وَقَالَ سفيان بن عيينة: كَانَ العلماء فيما مضى يكتب بعضهم إلى بعض بهؤلاء الكلمات: منْ أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين النَّاس، ومن عمل لآخرته، كفاه الله أمر دنياه. رواه ابن أبي الدنيا فِي "كتاب الإخلاص". فعلم أن القلب إذا صلح بالإيمان صلح الجسد بالإسلام، وهو منْ الإيمان، يدلّ عَلَى ذلك أنه قَالَ فِي حديث جبريل -عليه السلام-: "هَذَا جبريل جاءكم يُعلّمكم دينكم"، فجعل الدين هو الإسلام، والإيمان، والإحسان"، فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة، لكن هو درجات ثلاث: مسلم، ثم مؤمن، ثم محسنٌ، كما قَالَ تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} الآية [فاطر: 32]، والمقتصد، والسابق كلاهما يدخل الجنّة بلا عقوبة، بخلاف الظالم لنفسه، وهكذا منْ أتى بالإسلام الظاهر مع تصديق القلب، لكن لم يقم بما يجب عليه منْ الإيمان الباطن، فإنه معرّضٌ للوعيد، كما سيأتي بيانه، إن شاء الله.
وأما الإحسان: فهو أعمّ منْ جهة نفسه، وأخصّ منْ أصحابه منْ الإيمان، والإيمان