عَنْ نُبَيْشَة -بِنُونٍ، ومُوحَّدة، ومُعْجَمه مُصَغَّر- قَالَ: "نَادَى رجُل رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ عَتِيرَة فِي الْجاهِليَّة فِي رَجَب، فَمَا تأمُرنَا؟ قَالَ: اذْبحُوا للهِ فِي أيِّ شَهْر كَانَ، قَالَ: إِنَّا كُنَّا نُفْرعُ فِي الْجَاهِليَّة؟، قَالَ: "فِي كُلّ سَائِمَة فَرَع، تَغْذُوهُ مَاشِيتُك حَتَّى إِذَا اسْتَحْمَل ذَبَحْته، فتصدَّقْت بِلَحْمِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْر". وفِي رِواية أبِي دَاوُد، عن أبِي قِلابَة "السَّائِمَة مِائَة"، ففِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم-، لم يُبْطِل الْفَرَع والعَتِيرَة مِن أصْلهمَا، وِانَّما أبْطلَ صِفَة مِنْ كُلّ مِنْهُمَا، فَمِنْ الْفَرَع كَوْنه يُذْبَح أوَّل ما يُولد، ومِن الْعَتِيرَة خُصُوص الذَّبْح فِي شَهْر رَجَب.
وأمَّا الْحَدِيث الَّذِي أخْرَجَه أصْحَاب السُّنَن (?)، منْ طرِيق أبي رَمَلَة، عن مِخْنَف بن مُحَمَّد بن سَلِيم، قَالَ: "كُنَّا وُقُوفًا مع النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- بِعَرَفَة، فَسَمِعته يقُول: يا أيَّها النَّاس عَلَى كُلّ أهْل بَيْت، فِي كُلّ عَام أُضْحيَّة وَعَتِيرَة، هَلْ تَدْرُون ما الْعَتِيرَة؟ هِي الَّتِي يُسمُّونَها الرَّجَبِيَّة". فَقَدْ ضَعَّفَهُ الخَطَّابِيّ، لَكِنْ حَسَّنهُ التِّرمِذِيّ.
وَجَاء منْ وَجْه آخر عن عبد الرَّزَّاق، عن مِخْنَف بن سُلَيْمٍ. وُيمكِن رَدّه إِلى مَا حُمِلَ عَلَيْهِ حَدِيث نُبَيْشَة.
وَرَوَى النَّسائِيُّ (?)، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم، منْ حدِيث الْحَارِث بن عَمْرو، أنَّهُ لقِيَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- فِي حجَّة الوَدَاع، فَقَالَ رجُل: يَا رسُول الله، الْعَتَائِر، والفَرَائِع؟ قَالَ: "مَنْ شَاءَ عَتَرَ، وَمَنْ شَاء لمْ يَعْتِر، ومن شَاءَ فَرَّعَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُفَرِّع". وَهَذا صرِيح فِي عَدم الوُجُوِب، لكِنْ لا يَنْفِي الاسْتِحْبَاب، ولا يُثبِتهُ، فيُؤْخَذْ الاسْتِحْبَاب منْ حَدِيث آخَر. وَقَدْ أَخْرَجَ أبُو دَاوُد، منْ حَدِيث أبِي العُشَرَاء، عن أبِيهِ: "أنَّ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- سُئِل عن العَتِيرَة؟ فَحَسَّنهَا". وأخرج أبُو داوُد، والنَّسائِيُّ، وصَحَّحهُ ابْن حِبَّان، منْ طرِيق وكِيع بن عُدُس، عَنْ عَمّه، أبِي رَزِين العُقَيْليّ، قَالَ: قُلْت: يَا رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- إِنَّا كُنَّا نَذْبَح ذَبَائِحِ فِي رَجَب، فَنَأْكُل، وَنُطْعِم منْ جَاءَنَا، فَقَالَ: "لا بَأْسَ بِهِ". قَالَ وكِيع بن عدُس: فَلا أدْعُهُ.
وجزم أبُو عُبَيْد، بِأنَّ الْعَتِيرَة تُسْتَحَبّ، وفِي هَذَا تَعَقُّب عَلَى منْ قَالَ: إِنَّ ابْن سِيرِين تفَرَّد بِذلِك. وسيأتي للمصنّف بعد حديث عن ابْن عَوْن أَنَّهُ كَانَ يفعلهُ، وَمَالَ ابْن المُنْذر إِلى هَذَا، وَقَالَ: كَانت الْعَرَب تَفْعَلهُما، وَفَعَلهُما بعْض أهْل الإسْلاِم بِالإِذْنِ، ثُمَّ نَهى عنهُما، والنَّهْي لا يَكُون إِلَّا عَنْ شَيْء كَانَ يُفْعَل، وَمَا قَالَ أَحَد إِنَّهُ نَهَى عَنْهُمَا، ثُمَّ أذِنَ فِي فِعلهما، ثُمَّ نَقَلَ عَنْ العُلَمَاء تركهمَا، إِلَّا ابن سِيرِين، وَكَذَا ذَكَر عِيَاض أن الْجُمْهُور عَلَى النَّسْخ، وبِهِ جَزَم الْحَازِمِيّ، وما تقدَّم نَقْله عَنْ الشَّافِعِيّ يرُدّ عَلَيْهِمْ.