وَقَدْ أخْرَجَ أبُو داوُد، والْحَاكِم، والبيهقِيُّ -واللفظ لهُ- بِسَنَدٍ صحِيح، عن عائِشة: "أمرنا رسُول الله -صلى الله عليه وسلم- بِالْفَرَعةِ، فِي كُلّ خَمْسِينَ وَاحِدَة". انتهى ما فِي "الفتح" ببعض تصرّف (?).
وَقَالَ العلاّمة الشوكانيّ رحمه الله تعالى: أحاديث الباب يدلّ بعضها عَلَى وجوب العَيرة والفرَع، وهو حديث مِخنَف، وحديث نُبيشة، وحديث عائشة، وحديث عمرو ابن شُعيب، وبعضها يدلّ عَلَى مجرد الجواز منْ غير وجوب، وهو حديث الحارث بن عمرو، وابي رَزين، فيكون هذان الحديثان كالقرينة الصارفة للأحاديث المقتضية للوجوب إلى الندب. وَقَدْ اختُلف فِي الجمع بين الأحاديث المذكورة، والأحاديث القاضية بالمنع منْ الْفَرَع والعَيِيرة، فقيل: إنه يُجمع بينها يحمل أحاديث الجواز عَلَى الندب، وحمل أحاديث المنع عَلَى عدم الوجوب، ذكر ذلك جماعة، منهم: الشافعيّ، والبيهقيّ، وغيرهما، فيكون المراد بقوله: "لا فرَع، ولا عَتِيرة" أي لا فرَع واجب، ولا عَتِيرة واجبةٌ، وهذا لابدّ منه، مع عدم العلم بالتاريخ؛ لأن المصير إلى الترجيح مع إمكان الجمع لا يجوز، كما تقرّر فِي موضعه. وَقَدْ ذهب جماعة منْ أهل العلم إلى أن أحاديث الجواز منسوخة بأحاديث المنع، وادّعى القاضي عياضٌ أن جماهير العلماء عَلَى ذلك، ولكنّه لا يجوز الجزم به إلا بعد ثبوت أنها متأخّرة، ولم يثبت.
وَقَالَ أيضًا عند شرح حديث "لا فرَع، ولا عتيرة": ما حاصله: وَقَدْ استدلّ بهذا منْ قَالَ: إن الْفَرَع والعتيرة منسوخان، وَقَدْ عرفت أن النسخ لا يتمّ إلا بعد معرفة تأخّر تاريخ ما قيل: إنه ناسخٌ، فأعدل الأقوال الجمع بين الأحاديث بما سلف، ولا يعكُر عَلَى ذلك رواية النهى؛ لأن معنى النهي الحقيقيّ، وإن كاد هو التحريم، لكن إذا وُجدت قرينة أخرجته عن ذلك. ويمكن أن يُجعل النهي موجّهًا إلى ما كانوا يذبحونه لأصنامهم، فيكون عَلَى حقيقته، ويكون غير متناول لما ذُبح منْ الْفَرَع، والعتيرة لغير ذلك، مما فيه وجه قربة. وَقَدْ قيل: إن المراد بالنفي المذكور نفي مساواتهما للأضحيّة فِي الثواب، أو تأكد الاستحباب. وَقَدْ استدلّ الشافعيّ بما روي عنه صلّى الله تعالى عليه وسلم أنه قَالَ: "اذبحوا لله فِي أيّ شهر كَانَ" عَلَى مشروعيّة الذبح فِي كلّ شهر إن أمكن، قَالَ فِي "سنن حرملة": إنها إن تيسّرت كلّ شهر كَانَ حسنًا". انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله تعالى ببعض تصرّف (?).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله الشوكانيّ رحمه الله تعالى تحقيق نفيسٌ